رغم استمرار الحرب في قطاع غزة, فإن ذلك لم يمنع العديد من الدوائر السياسية والبحثية ومراكز صنع القرار, خاصة على المستويين الأمريكي والإسرائيلي، من الحديث عن اليوم التالي أي ما بعد انتهائها، وتقديم المشاريع والمقترحات بشأنه، والتي أثارت جدلا وما زالت تخضع لنقاشات وسجالات، ولكنها في كل الأحوال ماضية قدمًا، ولذلك كان موضوع مستقبل غزة على رأس أجندة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال جولاته الست إلى الشرق الأوسط، في إطار السعي لحل دائم للقضية الفلسطينية وإقرار السلام.
تضغط الولايات المتحدة من أجل أن تقبل الدولة العبرية بـحل الدولتين مقترحة أن تحكم القطاع سلطة فلسطينية فاعلة عير تلك القائمة في رام الله، والتي ستكون مُطالبة بإجراء اصلاحات سياسية ملحة، وتطرح إدارة بايدن في هذا السياق أن تتولى تدريب قوة خاصة لمكافحة الارهاب، قوامها خمسة آلاف فرد من قوات الأمن الفلسطيني التابعين للسلطة وحركة «فتح»، لنشرها في جميع أنحاء غزة، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها، وتكون مهمتها الحفاظ على النظام وفرض الأمن وضمان عدم شن هجمات ضد اسرائيل مثلما حدث في السابع من أكتوبر، أو إعادة الاشتباك معها، على غرار الخطة الأمنية التي أنشأها الجنرال الأمريكي كيت دايتون في الضفة عام 2005 بعد انتخاب رئيس السلطة محمود عباس، وبالتالي فتصور بايدن يركز على التوصل إلى اتفاق قبل انتهاء الحرب، حول الهيئة البديلة التي ستدير القطاع عوضا عن حكم حماس المستمر منذ 2007 ولا تضر بأمن إسرائيل في الوقت نفسه. لكن هذه الرؤية الأمريكية، لا تعكس بالضرورة الخطة الاسرائيلية لليوم التالي، فيما عدا الاتفاق التام على استبعاد حماس وألا تكون طرفا في أي معادلة للتسوية، فهذه نقطة رئيسية لا يحيد عنها الجانبان.
أما عن خطة إسرائيل، كما عرضها وزير دفاعها يوآف جالانت، تحت نفس العنوان وكشفت عنها البي بي سي، فتقوم بداية على ضمان ألا تعود الحركة لحكم القطاع، بينما تحتفظ بلاده بالهيمنة الأمنية الكاملة عليه بما في ذلك اشرافها على ما يدخل إليه من مواد سلعية وبضائع وغيرها، ويقتصر وجودها على الجانب العسكري، ولا يقيم فيه مدنيون إسرائيليون، وأن تتولى قوة متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة وتضم شركاء إقليميين وأوروبيين مسؤولية إعادة إعمار غزة، لكن اللافت هنا أن جالانت لم يتحدث عن سقف زمني لانهاء الحرب، بل عن كيفية استمرار إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية المرحلة المقبلة في ظل هذه الخطة، من خلال اتباعها نهجا أكثر دقة في استهدافها لشمال القطاع وجنوبه لحين القضاء على جميع عناصر حماس، وبالتزامن ستلعب السلطة الفلسطينية دورا محدودا شرط التزامها بمنع أي أعمال عدائية تهدد أمن الدولة العبرية، وبالطبع لم يكن هناك ذكر لحل الدولتين.
لكن هناك بعض الكتابات الإسرائيلية التي تناولت خطة اليوم التالي بشكل أكثر تفصيلًا، ومنها مقال للكاتب والمحلل السياسى يوني بن مناحيم, نشره على موقع إيبوك بعنوان «الطريق إلى نزع السلاح في قطاع غزة» مؤكدا أن هذه العملية يجب أن تكون جزءا لا يتجزأ من خطة اليوم التالي للحرب، وخطوة استباقية لأي سلطة بديلة لحكم حماس، في الوقت الذي يجب أن يستمر فيه القتال في جنوب القطاع أي رفح، مشيرا إلى أن هذا الأمر قد بدأ بالفعل وإن كان بشكل غير معلن، كما أوضح أن العمليات العسكرية في المناطق التي احتلها الجيش في شمال القطاع ستستمر أيضا لتدمير ما تبقى من الآبار (حيث تم تفجير ما يقرب من 1500 بئر) والأنفاق، التي تم بالفعل تدمير عشرات الكيلو مترات منها، لكن هذه المهمة ستكون صعبة وطويلة، لأنه لم يتم حتى الآن، وفقا لما أورده، اكتشاف طول هذه الأنفاق التي بنتها حماس على مدى 15 عاما، مُقدرا أنها تتراوح بين 500 إلى ألف كيلومتر، ولذلك يتعين منع عودة السكان الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم إلى هذه المنطقة لحين تدميرها بشكل كامل، لضمان إبعاد مقاتلي حماس بصورة نهائية. أما باقي الخطة، فيتعلق بإنشاء منطقة عازلة على طول الحدود مع القطاع بعمق كيلومترين، تتُخذ فيها إجراءات صارمة للمراقبة والإنذار المبكر وزرع حقول ألغام، على أساس أن من يدخلها يصبح هدفا مباشرا للنيران الإسرائيلية.
وفي اليوم التالي للحرب، حسب نفس الخطة، ستتعامل الحكومة الإسرائيلية مع غزة بصفتها منطقة (ب) مثل الوضع في الضفة الغربية المقسمة إلى ثلاث مناطق، بحيث تكون لها السيطرة الأمنية الكاملة، مع وجود إدارة مدنية فلسطينية لها سلطة محدودة على من تبقى من السكان.
هذا التصور ما زال يثير بعض الخلافات في الداخل، خاصة من تيارات اليمين المتشدد في الحكومة الحالية، التي تطالب بتهجير الفلسطينيين، وإعادة بناء المستوطنات اليهودية في غزة، فضلا عن الضغوط الدولية التي تسعى للضغط في الاتجاه المعاكس، لايجاد تسوية شاملة ودائمة للقضية الفلسطينية، ووضع حد للحرب، لذا نقلت شبكة إن بي سي الأمريكية مؤخرا عن مسؤولين في البيت الأبيض، أن بايدن طالب نتنياهو بالموافقة على وقف إطلاق النار وتوسيع صلاحيات وفد التفاوض بشأن الهدنة، وأن واشنطن قد تجعل مساعداتها لتل أبيب مشروطة بسلوك الأخيرة في الحرب. فهل سيتحول هذا التحذير الذي يُعد الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بينهما إلى فعل على أرض الواقع أم سيظل مقتصرا على مستوى الخطاب؟ في كل الأحوال سيبقى هناك تباين في الرؤى، لكنهما متفقان على أن اليوم التالي لن يكون أبدا مثل سابقه.
("الأهرام") المصرية