تحتاج مصر في الوقت الراهن كأشد ما يكون الاحتياج إلى ورشة إصلاح شامل، ورؤية تجديد حقيقي تطال كل مناحي الحياة، وللأسف أنّ أنظمة الحكم المتعاقبة جرّبت الولوج من باب الإصلاح الاقتصادي ولم تحدث طوال السبعين سنة الماضية أي محاولة لطرق باب الإصلاح السياسي الموصد عمدًا مع سبق الإصرار.
حجر الأساس لـ"جمهورية جديدة" في مصر يبدأ من طرح سؤال الإصلاح السياسي على المجتمع بكل قواه الحية، هو سؤال الساعة، وعلى إجابته تتأسّس الجمهورية الموعودة.
من ١٩٥٤ إلى ٢٠٢٤ كانت أولويات الإصلاح الاقتصادي مقدّمة على ضرورات الإصلاح السياسي، دخلت مصر تجارب إصلاح اقتصادي متعددة، لم تطرق بابًا واحدًا، بل دخلت من أبوابٍ متفرقة، وجرّبت طرقًا متعددة، تعثّر بها الإصلاح على الطريق إلى الاشتراكية، وانتهى إلى ضياع كل مكتسباته، وأهدرت كل منجزاته.. ومن بعد تاهت مصر في دروب إصلاح الاقتصاد على طريقة "صندوق النقد الدولي". وفي كل الأحوال ظلّ الإصلاح السياسي مستبعدًا من أجندة الأولويات.
ظللنا نتلهى بالحديث عن الإصلاح الاقتصادي ونتعامى عن الإصلاح السياسي والنتيجة فقدنا الإصلاحين معًا
في الستينيات من القرن الماضي استطاعت مصر أن تبني اقتصادًا قويًا، وشيدت صروحًا كبرى، ودشنت قلاعًا صناعية عملاقة، وطبقًا لتقرير البنك الدولي حققت خلال عشر سنوات نسبة نمو شارفت ٧% سنويًا، ما يعني أنها استطاعت أن تقوم بتنمية تماثل ٤ أضعاف ما استطاعت تحقيقه في الأربعين سنة السابقة.
هذا النجاح على الصعيد الاقتصادي واكبه فشل في إقامة نظام سياسي يحافظ على مكتسبات وإنجازات تلك المرحلة الثرية، والمفجع أنّ عملية الارتداد عن كل هذه المكتسبات، وانتكاس كل إنجازاتها، جاءت بالآليات السياسية نفسها التي وضعتها وكرّستها التجربة الناصرية.
بعدها انقلبت الأحوال وتبدلت السياسات وجاء انفتاح "السداح مداح" كما سماه الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين، ثم داهمتنا الخصخصة لتقضي على منجزات تلك الفترة، ومضى قطارها على قضبان تفكيك وبيع الأصول العامة، وانتهى الحال بنا إلى الوقوف على باب "صندوق النقد" طلبًا لقروض جديدة نُسدد بها فوائد القروض القديمة، وتاهت البوصلة في دوامة الاقتراض الذي بلا نهاية.
عانت مصر طويلًا من التلكؤ في إنجاز عملية إصلاح سياسي في فترة الستينيات، ثم النكوص عن المضي قدمًا في تحقيق شعار الديمقراطية الذي رفعه السادات في أوائل السبعينيات، وانتهى الأمر إلى الديمقراطية "ذات الأنياب" التي زجت بكل من لهم علاقة بالسياسة من معارضي الساداتية إلى غياهب السجون في سبتمبر/أيلول ١٩٨١.
بعد ٣٠ سنة جاءت رياح يناير/كانون الثاني ٢٠١١ بما تشتهي سفن المتطلعين إلى التغيير، لكن سرعان ما انقلب الحلم إلى ما يشبه الكابوس، وتمت هندسة جديدة للوضع السياسي العام، جعلت السياسة نفسها شيئًا كريهًا؛ وأطاحت بكل التكوينات السياسية خارج دائرة الفعل السياسي، وأفسح المجال واسعًا أمام "عرض الرجل الواحد".
ظللنا نتلهى بالحديث عن الإصلاح الاقتصادي، ونتعامى عن الإصلاح السياسي، والنتيجة فقدنا الإصلاحين معًا. وما تزال النخب الحاكمة تعيد التجربة وراء الأخرى لتصل إلى النتائج نفسها، أوضاع اقتصادية أشد سوءًا، وأحوال سياسية أشد قمعًا وانغلاقًا.
في الحساب الختامي لهذه المسيرة الطويلة جاءت الفاتورة باهظة الثمن، ولم يعد هناك مجال لمزيد من الوقت بدل الضائع، وصار محتمًا أن نبدأ من خبرة كل تلك السنين.
أكثر ما يتفق عليه علماء الاجتماع والسياسة أنّ الاستقرار السياسي أول وأهم ضرورات التنمية، وهو منصة الانطلاق في بناء دولة حديثة، ولا خلاف بينهم على أنّ الإصلاح السياسي هو ضمانة هذا الاستقرار وهو الداعم لاستمراره.
كل التجارب الناجحة في الدول التي مرت بظروف مشابهة لظروفنا أثبتت أنّ الإصلاح السياسي هو البداية الطبيعية لكل إصلاح منشود. وكان هو مقدمة النهوض من ركام الفساد والرشوة، والتخلف، والفقر، والجوع، ووضعها في مصاف الدول المزدهرة والأعلى دخلًا على مستوى العالم.
أهم منتجات الإصلاح السياسي تتجلى في توفير بيئة سياسية حاضنة للإصلاح على كافة المحاور الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية. بيئة تقدّس الحريات العامة، وتحترم حقوق الإنسان، وتكرّس ثقافة المواطنة المبنية على قواعد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. بيئة سياسية تسمح بوجود أحزاب ذات امتدادات شعبية، تقيم حياة سياسية فاعلة، وتكون "مفارخ" لإنتاج الكفاءات وفرز أصحاب الخبرة وتقديم القادرين على تحمّل مسؤولية إدارة شؤون البلاد.
كل بناء بدون مشاركة فعالة من الناس ولمصلحتهم معرضٌ للانتكاس وقابلٌ للهدم
بيئة قانونية تضمن حريات الصحافة والإعلام والنشر، وتكفل حرية تكوين النقابات التي تدافع عن حقوق المنتسبين لها، وتضع ضمانات بناء مجتمع مدني مستقل ومشارك بفاعلية في إعداد الخطط التنموية والاستراتيجيات الوطنية للنهوض بالبلاد والتحسين المستمر للظروف المعيشية للمواطن ورفاهيته.
الجديد الذي يدشن "جمهورية جديدة" في مصر يبدأ من التوافق المجتمعي على خارطة طريق للإصلاح السياسي وفق جدول زمني محدّد سلفًا يفضي بنا إلى الوصول الآمن إلى محطة الحكم المدني الرشيد، الذي يخضع للمساءلة، والتداول السلمي للسلطة.
كل التجارب الكبرى التي راحت تصنع تاريخًا مجيدًا في مصر، فشلت في أن تُحصّن نفسها بالشعب، فانتكست، وصارت هشيمًا تذروه الرياح، ذلك أنّ كل بناء بدون مشاركة فعالة من الناس ولمصلحتهم معرضٌ للانتكاس، وقابلٌ للهدم والنسيان.
الإصلاح السياسي يحتاج إلى إرادة سياسية، وهو اليوم في أيدينا قرار، إذا تأخّر قد يتحول إلى اضطرار. هذا هو درس التاريخ.
(خاص "عروبة 22")