بلغة أخرى، تدعم العملية التعليمية المتقدمة الحركية المواطنية الفاعلة والنشطة، والعكس صحيح بطبيعة الحال، إذ إصابة المنظومة التعليمية بخلل/باختلالات سوف يحول دون إبداع المواطنة. والمتابع لواقع كل من "المنظومات التعليمية ـــ الحركية المواطنية" في منطقتنا سوف يلحظ بسهولة ويسر كيف أنّ ضعفًا بيّنًا قد طالهما معًا. ولعل السؤال المنطقي الذي يفرض نفسه: لماذا حدث هذا الضعف في المنظومات التعليمية ومن ثم حال دون بلورة تجلٍ مواطني شامل وفاعل؟
واقع الحال؛ لم يكن ليحدث ذلك الضعف للمنظومات التعليمية ما لم يكن قد حدثت انحرافة كبرى في الرؤية العامة الحاكمة لحركة وإدارة مجتمعاتنا والتي تتضمن الرؤية للتعليم وقيمته ومكانته ودوره في تنميتها. فلا شك أنّ المنظومة التعليمية التي يحرّكها الخير العام سوف تختلف عن المنظومة التعليمية التي تديرها المصالح الخاصة. الأولى تكون قادرة على "إبداع المواطنة"؛ ومن ثم تأمين ممارستها للجميع دون تمييز. أما الثانية فسوف تؤسّس "لصناعة التفاوت"؛ ما يترتب عليه إعاقة ممارسة المواطنة عمومًا واستئثار القلة، "من يملك/يقدر"، بثمار التعليم الذي سوف يكون في هذه الحالة في خدمة القلة دون الأكثرية ومصالحها الخاصة.
لم يعد التعليم حقًا لجميع المواطنين دون تمييز بل لمن استطاع تدبير تكلفته المالية
وفي هذا المقام، يشير أحد الباحثين إلى أنّ الخيار الاقتصادي الذي نهجته دولنا ذات الاقتصاد الريعي وما دونه على مدى عقود قد جعل من "السوق" أساسًا يوجه مساراتها المختلفة والتي من ضمنها التعليم. وعليه تم إعادة هيكلة المنظومة التعليمية لـ"التخديم" على "السوقنة"، إذا جاز التعبير، على المستويات: الفلسفية الحاكمة، والعملياتية/البرامجية، والمجتمعية/الوطنية للعملية التعليمية.. كيف؟
فلسفيًا؛ غابت المواطنة كمبدأ أساس حاكم لفلسفة التعليم، فلم يعد التعليم حقًا لجميع المواطنين - دون تمييز - بل لمن استطاع تدبير تكلفته المالية. ما ضرب قيمة الفرص المتساوية بين الجميع. ومن ثم أصبح التعليم - عمليًا - حقًا لمن يملك – وفقًا لما ورد بمقاربتنا المبكرة عن المواطنة من منظور اقتصادي اجتماعي والتي وردت بدراسة نُشرت في دورية اليسار منتصف تسعينيات القرن الماضي تحت عنوان: المواطنة حق لمن يملك ولا يملك -، ومن ثم وسيلة، في ظل خيار الليبرالية الجديد، وجوهرها "السوقنة"، للحاق بالسوق ومتطلباته.
وعملياتيًا/برامجيًا؛ ساهم ضعف المناهج وعدم مواكبتها لجديد المعرفة، كذلك ضعف الكادر التعليمي، واللجوء إلى بيئات تعليمية خاصة بديلة "السناتر المدرسية"، و"المذكرات الجامعية" إلى ضرب العملية التعليمية في جوهرها. ما أصابها بالضعف وألحق بها التآكل وأدى إلى تدهور قدرات المتعلمين. كما ساهم تشظي أشكال التعليم إلى (عام، خاص، استثماري، أهلي، أجنبي، ديني)، وما ترتب على ذلك من سلبيات إلى "صناعة التمايز" وبالتالي "التمييز" في الجسم الاجتماعي.
ومجتمعيًا/وطنيًا؛ أصبح الحصاد النهائي لهكذا منظومة تعليمية هو إنتاج أفراد - لا "مواطنون" - منبتي الصلة بسياقهم المجتمعي ومتطلباته من جهة، وبوطنهم وخيره العام من جهة أخرى، إذ تحكم هؤلاء الأفراد مصالحهم الخاصة.
ويشير المجلد المرجعي المعنون: التعليم، والاستقلال الذاتي، والمواطنة الديمقراطية؛ إلى أنه: "متى تحكم السوق في تسيير السياسات العامة عمومًا، والسياسات العامة للتعليم خصوصًا، فإنّ النتاج النهائي للعملية التعليمية سوف يؤسس لما يُطلق عليه: التعليم وفق قيم السوق Market based Education؛ التي تتضارب ولا تتوافق كليًا incompatible؛ مع التعليم في ضوء المواطنة Citizenship based approach to Education"؛ حيث الأولى توفر التعليم للقادرين من أجل تخريج نوعين من المتعلمين إلى السوق؛ أولًا: أصحاب المصلحة Stakeholders، وثانيًا: المستهلكون Consumers. أما الثانية فإنها توفر تكافؤ الفرص أمام الجميع للتعليم، وتخريج مواطنين - إلى المجال العام/السياسي/المدني - يسهمون في بناء الوطن وفق الخير العام بغض النظر عن أية اختلافات.
"تعليم السوقنة" يؤدي إلى اللامساواة و"تعليم المواطنة" يدفع إلى إنصاف الجميع على اختلافاتهم
وقد رصدنا في دراساتنا المشار إليها أعلاه أحد عشر اختلافا وهي: المكانة، والطبقة، والجنس، والدين، والمذهب، واللون، والجهة، والعرق، واللون، والإعاقة، والثروة. أي أنّ "تعليم السوقنة" سوف يؤدي إلى صناعة التفاوت واللامساواة. مقابل "تعليم المواطنة" الذي يدفع إلى الإبداع المواطني وإنصاف الجميع على اختلافاتهم.
وبعد،، هناك توافق بين كثيرين ممن قاموا بدراسة ما لحق بالعملية التعليمية من تداعيات كارثية = في دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب العالمي الصاعدة، والمتعثرة على السواء - جراء خيار "النيوليبرالية" الذي ساد على مدى عقود، على ضرورة الانتباه إلى تلك التداعيات التي همشت وأقصت الكثيرين من العملية التعليمية، وأضعفت الفاعلية المواطنية لحساب الاستثمار الفردي - وهو أمر غير متاح إلا للقلة - والاستهلاك المحموم، وتقديم المشروع الفردي على العام، وتوسيع الفجوة بين النخبة والأغلبية.
ومن ثم لا مناص من إعادة الاعتبار إلى الالتزام بتوفير فرص متكافئة أمام الجميع من أجل: الانخراط في العملية التعليمية، وبأعلى كفاءة ممكنة، وضمان الممارسة المواطنية الفاعلة... ما يستدعي التوقف فورًا وكليًا عن تعليم "صناعة التفاوت"؛ لصالح التعليم بالمواطنة، والتعليم على المواطنة، والتعليم من أجل المواطنة؛ أو تعليم "إبداع المواطنة".
(خاص "عروبة 22")