بصمات

"الشر المطلق" عند طه عبد الرحمن: ازدواجية الوصف والتقييم

بعد الحرب العالمية الأولى نشط الوعي الإنساني القائم على ضرورة أنسنة العلاقات الاجتماعية في بُعدها الدولي، خاصّة أنّ مجريات الحروب غالبًا ما تخضع للحد الأدنى من التعامل الانساني، لهذا تمّ تجريم الإبادة والتنكيل والتجويع والتهجير وكل أشكال العنف اللامبرّرة من طرف أحد أطراف الحرب، فهل استطاع فعلًا الإنسان أن ينضبط لهذا التوجه الأخلاقي أم أنّه ظلّ أفقًا مأمولًا لا يجد أرضية فعلية لتحققه بقدر ما ينتعش على أصوليات دينية وتوجهات سياسية؟.

تُشكّل المشاهد القادمة من حرب إسرائيل على غزّة صدمة إنسانية يصعب التعايش معها، وخصوصًا أنّنا صرنا اليوم نتابع الأمر بشكل حي ومباشر، مما يجعلنا أمام أمرين: وصف ما نعيشه وتقييم هذه المشاهد البشعة، هذه الازدواجية هي ما وصفها المفكر المغربي طه عبد الرحمن بمفهوم "الشر المطلق" من خلال مقال رأي نُشر تحت عنوان "الشر المطلق ومسؤولية الفيلسوف" على موقع "الجزيرة نت" في 21 آذار/مارس 2024.

انطلقت المقالة من مسؤولية الفيلسوف في راهنها الزمني إزاء ما أسماه بـ"الحدث الأعظم الذي نواجهه اليوم والمتعلق بظهور الشر المطلق بما هو واقع الوجود بالفعل والقوة الذي قد طال في سياقه الفلسطيني كل مظاهر الحياة والمقدسات، فالكل مباح ومتاح أمام الهمجية الحربية الإسرائيلية".

مفهوم الشر الذي استخدمه طه عبد الرحمن أشبه برصد نهاية للمشروع الأخلاقي الغربي

إنّ الشر المطلق هنا أشبه باستلهام المفهوم الهيغلي الخاص بذروة التاريخ الغربي، وهو ما ترجمه طه عبد الرحمن إلى تجلٍ نهائيٍ لانحدار المستوى الأخلاقي. نحن هنا إزاء عملية إسقاطية للمطلق الهيغلي باعتباره حالة اكتمال لمسار تصاعدي تاريخي على المطلق الخاص بطه عبد الرحمن كتجل لانحدار القيم الأخلاقية الغربية في نموذجها الإسرائيلي حيث الشر المطلق بزغ مع أحداث "طوفان الأقصى"، أي أنّ الشر كان متواجدًا كامنًا في الكيان الإسرائيلي وأنّ أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر عملت على إظهار هذا الشر المطلق.

هذه قراءة مثنوية لقطبي الشر والخير، هذه المثنوية التي تعتبر "طوفان الأقصى" محركًا خيرًا أزال اللثام أو الغشاوة عن الشر الكامن في الكيان الإسرائيلي، فما كان سوى سبب لشرٍ متعاظمٍ وقادمٍ، والقطب الثاني يُمثّل عملية تراكمية للشر، أي النموذج الإسرائيلي الممتد من الفطرة القائمة على فتنة القيم أو نقص في ميثاق الإرادة إلى مرحلة الظهور.

فهل معنى ذلك أنّ المسار التاريخي للقيم الأخلاقية الإنسانية كانت أفضل مما هي عليه اليوم لدى كل الشعوب؟

إنّ مفهوم الشر الذي استخدمه طه عبد الرحمن أشبه برصد نهاية للمشروع الأخلاقي الغربي انطلاقًا من منظور معياري قيمي، وهو ما يعني أنّ الراصد لهذا المفهوم ينطلق من عدّة نقط:

- أولًا: الانزواء إلى هامش التقييم الأخلاقي الذي ينزع مشروعية صاحب الفعل، هو ناتج عن العجز أمام فعل لاأخلاقي ممّا يُحقّق ذهنيًا ندية في الفعل ورد الفعل، ولو على المستوى السيكولوجي، كأنّنا أمام توجيه سبة أخلاقية للآخر المتفوق، هذه السبة التي ترفع بشكل ما عجزنا وتعمل بالمقابل على جعلنا نشعر ببذخ في هذا العجز المفتعل والمحتفى به لأنّه لا يسبب سبة أخلاقية ناقصة، بقدر ما يعزلنا ويرسم حدودًا فاصلةً بيننا وبين ذاك المسيطر والقوي راهنًا الذي لا يقدّم نموذجًا أخلاقيًا.

- ثانيًا: غالبًا ما يقوي الإحساس بالمظلومية الحضارية الانزواء إلى الذريعة الأخلاقية لهدم أو محاربة الآخر، وهو أمرٌ قد يكون نابعًا عن الإحساس باحتلال مرتبة وجودية متعالية أخلاقيًا أو ما قد نسميه اصطفاءً أخلاقيًا أو طهرانية نموذجية التي لم يتصف بها الإنسان على مر التاريخ، وكأنّنا أمام منظور يُكرّس أسلمة القيم الانسانية أو يعمل على طهرانيتها الإيمانية بعُدّة مفهومية إيمانية تستلهم الميثاق القيمي الغربي لتحديد ماهية وكذا تراتبية الخير والشر.

- ثالثًا: هناك أيضًا تراتبية اصطفائية أو عرقية تنطلق وجوبًا من المسلمين نحو باقي الشعوب، فتحت ضغط الظلم الذي يطال الفلسطينيين وتحت مطلب الرابطة الدينية يصير المسلمون هم القوم المطالب بتحريك العجلة الأخلاقية الكونية، فالتأصيل للإنسان الخير انطلاقًا من اعتبار طه عبد الرحمن أنّ مرتكبي الشر المطلق هم خارج عالم الميثاق "إذ وجود الإنسان إنّما هو بوجود الميثاق"، هو نوعٌ من التفرقة اللاأخلاقية المحتمية بالذريعة الأخلاقية، فكيف نفسّر استثناء الكائن الذي تجلّى على يده الشر المطلق من هذا التأصيل الخير؟ وكيف ننطلق من بُعدٍ إنساني لتصنيف لا انساني؟ وهل فعلًا يُشكّل الكيان الإسرائيلي النموذج الأوحد لهذا الشر الخارج عن الميثاق المشكل لماهية الإنسان؟ هل فعلًا كل الحروب تلتزم بميثاق الإرادة بماهية شرط لتشكل ماهية الإنسان حتى ننزع إنسانية مرتكبي الشر المطلق؟

لممارسة وعي نقدي فعلي اتجاه توجهاتنا السياسية والاقتصادية والدينية المشكّلة لهويتنا قصد مساءلة عجزنا

إنّ الجرائم الإنسانية كانت حاضرة دائمًا وفاعلة في التاريخ الإنساني على اختلاف أعراقه وتدينه وتوجهاته، وهي الجرائم التي تشكل الصورة الكاملة لهذا الكائن الإنساني الذي دشن تواجده الدنيوي بأول جريمة في التاريخ "هابيل وقابيل"، حيث الخير والشر يخضعان للرؤية المعيارية للمسيطر والمنهزم. إنّ ما كان غائبًا سابقًا هو هذا البث الحي والمباشر لهذه البشاعة الإنسانية وقدرتنا على التعايش مع عجزنا.

مسؤولية الفيلسوف اليوم بالدرجة الأولى - في سياقنا العربي والإسلامي - تكمن في ممارسة وعي نقدي فعلي اتجاه توجهاتنا السياسية والاقتصادية والدينية المشكّلة لهويتنا قصد مساءلة عجزنا وتحريك دفة ركودنا نحو الفعل، أمّا الشر وبزوغه وتاريخه، فكلنا نشترك في إنتاجه وتغذيته وحمايته، إذ هو مشتركٌ إنسانيٌ كونيٌ ولا يقتصر على نموذج بعينه، ولا يمكن رصد تراتبيته أو درجة إطلاقيته ونحن لا زلنا في خضم التاريخ ولا زال هناك مُتّسع للشر الإنساني.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن