وفي مؤشر على انتهاء الخطر، أعادت كل من إسرائيل والأردن ولبنان والعراق فتح مجالها الجوي، بعد ساعات من إغلاقه. ومنذ إعلانها انتهاء هجومها العسكري ضد إسرائيل الذي قدرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية تكلفة اعتراضه بأكثر من مليار دولار، لم تتوقف طهران عن تحذير تل أبيب من هجوم أكبر وأكثر تأثيرًا في حال ردت الأخيرة.
طبقًا لبيان أصدره الحرس الثوري الإيراني، فقد أطلقت قواته عشرات الطائرات المسيّرة والصواريخ باتجاه الأراضي المحتلة ومواقع في إسرائيل، ردًا على جرائمها العديدة، بما في ذلك الهجوم على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، ما أدى إلى مقتل مجموعة من القادة والمستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا.
الرواية الإيرانية
وفي التفاصيل، قال قائد الحرس اللواء حسين سلامي، إنّ الأهداف "كانت دقيقة للغاية"، لافتًا إلى أنّ قواته نفذت "عملية محدودة توازي ما حدث في دمشق". وذكر سلامي، أنه عوضًا عن أن تكون هذه العملية التي حملت اسم "الوعد الصادق"، واسعة النطاق، "تم حصر نطاقها". واستشهد في محاولة تأكيده على أنّ العملية "أكثر نجاحًا مما كان متوقعًا"، بأنّ "من يسكن في الأراضي الفلسطينية المحتلة والسلطات الصهيونية وجيش الكيان والولايات المتحدة قد أدركوا وفهموا الآثار المدمّرة لهذه الضربات أفضل منا".
ولم تفوّت إيران الفرصة، دون إعلان اعتمادها معادلة جديدة مع إسرائيل، تقضي بالرد على أي اعتداء من جهتها، من الأراضي الإيرانية مباشرة. وقال رئيس هيئة أركان الجيش الإيراني الجنرال محمد باقري للتلفزيون الرسمي: "ردنا سيكون أكبر بكثير من العمل العسكري إذا ردت إسرائيل"، مضيفًا أنّ طهران حذرت واشنطن من أنّ أي دعم للرد الإسرائيلي سيؤدي إلى استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة.
وفي رسالته إلى أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، اعتبر أمير إيرواني، مندوب إيران الدائم في المنظمة الأممية أنّ العمل العسكري الإيراني جاء في إطار الدفاع عن النفس، لافتًا إلى أنّ بلاده تحذر من أي استفزاز عسكري آخر، "لن نتردد في استخدام حقنا المبدئي في الدفاع المشروع، إذا لزم الأمر".
وتزامنًا، توعّد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بـ"ردّ أقوى" على أي خطوة "متهوّرة" تقوم بها إسرائيل، محذرًا من أنها إذا أظهرت هي أو داعموها سلوكًا متهورًا فستتلقى ردًا حاسمًا وأكثر عنفًا.
الرواية الإسرائيلية
لكنّ مسؤولًا إسرائيليًا، اعتبر في المقابل، أنّ إمكانية الرد على إيران تقلصت في ضوء نتيجة الهجوم والموقف الأمريكي، بينما أعلن متحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فشل خطة إيران الهجومية. ومع ذلك تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية، عن أنّ تل أبيب سترد على طهران لاحقًا، مؤكدةً أنّ "الأمر لم ينتهِ بعد".
ووثّق الجيش الإسرائيلي عبر لقطات مصوّرة هبوط طائرات إف 35 الإسرائيلية، في "نيفاتيم" قاعدتها الرئيسية الجوية جنوب الأراضي المحتلة، التي تقع في منطقة صحراء النقب بالقرب من مدينة بئر السبع، وتبعد حوالى 1100 كيلومتر عن الحدود الغربية لإيران.
ولفتت وكالة إيران الرسمية للأنباء، إلى أنه سبق للحرس الثورى أن تدرّب في شهر فبراير/شباط الماضي، على هجوم صاروخي، على نموذج محاكاة لحظائر هذه القاعدة.
وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نجاح بلاده في التعامل مع الهجوم الإيراني: "تم الاعتراض.. سنفوز معًا"، وهو معنى أكده وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، عبر قوله في تصريح مقتضب، إنّ إسرائيل تصدت لما وصفه بـ"الموجة الكبيرة الأولى من الصواريخ والطائرات المسيّرة، التي أطلقتها إيران".
من جهته نفى دانيال هاجاري المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، صحة التقارير الإيرانية التي تحدثت عن تدمير موقعين عسكريين خلال الهجوم، وقال إنّ "إيران أطلقت أكثر من 300 طائرة مسيّرة وصاروخ على إسرائيل.. تم إسقاط 99 بالمئة منها"، ووصف في كلمة تلفزيونية تحركات طهران بأنها "شديدة الخطورة، تدفع المنطقة نحو التصعيد".
بعد 190 يومًا من هجوم المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على مواقع الاحتلال الإسرائيلي في عملية "طوفان الأقصى"، تشير مصادر عربية وإقليمية إلى أنه في إطار حسابات ومآلات الضربة الإيرانية، تم تمرير قائمة الأهداف والتوقيت والإحداثيات المحتملة إلى الجانب الأمريكي لكي تتفادى إسرائيل وقوع خسائر بشرية من جهة، ولضمان عدم مشاركة أمريكا في المواجهة، من جهة أخرى.
ووفقًا لمصادر تحدثت معها "عروبة 22"، أعادت قوات إسرائيل انتشارها في ضوء هذه المعلومات، واستعدت لتمرير الضربة التي كانت محصلتها تقريبًا "لا شيء"، لافتةً إلى أنّ هذا هو ما فعلته أيضًا القوات الأمريكية في العراق والأردن.
واعترف وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان، بأنه تم" توجيه التحذيرات اللازمة لأمريكا"، باعتبار أنّ "توسيع نطاق الحرب ليس في مصلحة أحد"، كما أكد في بيان عدم نية بلاده في إطالة أمد "عملياتها الدفاعية"، وشدد على أنها ستحمي مصالحها المشروعة ضد أي عدوان جديد.
ورغم أنها المرة الأولى في تاريخ إيران وإسرائيل التي تندلع فيها مواجهة عسكرية شبه مباشرة بين البلدين، فإنّ الضربة التي ستدخل التاريخ من باب الغرائب والعجائب أو "التنكيت المبكي"، لم تحقق نجاحًا محدودًا، في إطار ما تم الاتفاق عليه، وحسب، بل حققت ما هو أبعد، باستعراض إيران لقوّتها العسكرية بشكل ميداني غير مسبوق في تاريخها المعاصر.
خامنئي.. و"خدمة العمر" لإسرائيل!
أدرك المرشد الإيراني علي خامنئي جيدًا قواعد اللعبة التي مارسها بشروط أمريكية وغربية، إذ تم إبلاغ حلفاء إسرائيل مسبقًا عبر وسطاء عرب وإقليميين. لم يكن من أهدافه بالطبع إزالة إسرائيل من الخارطة، وإنما استعراض العضلات في منطقة تفتقد وجود قائد إقليمي متفق عليه.
أيضًا من بين الأهداف الإيرانية، مغازلة الغرب واختبار النوايا الأمريكية بشكل مباشر تمهيدًا لوضع إقليمي جديد لا يستثني إيران ولا يتجاوزها.
في المحصلة، فتح الحوار غير المباشر الذي جرى بين طهران وواشنطن، استباقًا للهجوم الإيراني، الباب نحو إمكانية انتقال العلاقات المثيرة للجدل بين الطرفين إلى مرحلة جديدة.
أسدى خامنئى خدمة العمر لإسرائيل، بإعادة تمترس الغرب مجددًا خلفها، ما دفع رئيس "الموساد" الإسرائيلي السابق إلى أن ينصح حكومة بلاده بعدم خسارة التعاطف الغربي وتفادي الرد على الهجوم الإيراني وعدم التصعيد، الذي قد يراه نتنياهو طوقًا لنجاته لتفادي سقوطه من رئاسة الحكومة للأبد.
مساعدات إضافية
في هذا الصدد، اعترف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، بأنّ فرنسا كانت من بين الدول التي قدّمت المساعدة في التصدي للهجوم الإيراني، بفضل ما تمتلكه من تكنولوجيا، بينما أكدت تقارير فرنسية مشاركة باريس في اعتراض مسيّرات إيرانية فوق العراق والأردن.
ونقلت وكالة "رويترز"، عن مصادر أمريكية، أنّ الجيش الأمريكي أسقط طائرات مسيّرة وعشرات الصواريخ الإيرانية التي كانت موجّهة إلى إسرائيل، في إطار مساعدته في الدفاع عنها، مشيرةً إلى مشاركة البحرية الأمريكية في إسقاط بعض الصواريخ.
وطبقًا لمصادر في استخبارات غربية، فقد تم إسقاط الطائرات المسيّرة الإيرانية، التي مرّت بالمجال الجوي السوري، بطائرات حربية إسرائيلية وأمريكية، قبل الوصول لأهدافها، حيث اعترضتها الدفاعات الجوية بعد تحليقها فوق جنوب سوريا في محافظة درعا ومرتفعات الجولان السورية وعدة مواقع في شرق سوريا على الحدود مع العراق.
حصاد طهران
وبينما تتراجع إلى حد ما حظوظ وإمكانية إبرام الهدنة التي عكف مفاوضون مصريون وقطريون في اجتماعات ماراثونية بالقاهرة مؤخرًا على إبرامها على أمل أن تنتهي -ولو مؤقتًا- حرب غزّة، تقول إيران بشكل غير مباشر عبر ضربتها الأخيرة بوضوح إنها لا بد أن تكون حاضرة في ترتيب الهدنة.
لاحقًا، ستجني إيران حصاد الضربة، التي ستلفت الانتباه إلى تطور نوعي في قدراتها العسكرية والتسليحية، ما يعزز فرص تسويق الأسلحة الايرانية إقليميًا وعالميًا. وهو أمر سيعزز أيضًا، مستقبل الصناعات الدفاعية الأمريكية، ويجعل هناك طلبًا متزايدًا عليها، بعدما أثبتت بالتجربة نجاعتها في التصدي للهجوم الإيراني.
ولهذا سيكون منطقيًا، توقع أن يتضاعف حجم الإنفاق على التسليح مجددًا في منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير على حساب مشاريع التنمية الراهنة.
منذ تأسيس نظام الملالي في إيران عام 1979، وبعد نحو 45 عامًا من استخدام طهران لقضية فلسطين كجزء أساسي من أجندة سياستها الخارجية، ومن رؤيتها للعالم الإسلامي لزيادة تأثيرها وتوجيه الرأي العام في الشرق الأوسط ضد السياسات الغربية والإسرائيلية، يكرس النظام الإيراني نفسه كلاعب إقليمي مهم.
الأمن القومي العربي
فالضربة التي عبرت حدود دول عربية وهددت دولًا أخرى ودفعتها لتأهب عسكري غير معلن، تكشف انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، إلى حين. ووفقًا لديبلوماسي عربي، فإنّ ما جرى "خطير وتأثيراته المستقبلية أخطر، على نحو يتطلب رؤية مختفلة جذريًا، شريطة تحديد قواعد اللعبة وعلاقتنا مع أطرافها، والأهم مصالحنا فيها".
باختصار، يتعيّن على العرب في هذه المرحلة التفكير جيدًا في كيفية التعايش مع حقبة إيران الجديدة، بشكل لا يتناسى خطورة الكيان الإسرائيلي وحلفائه، كما يتعيّن عليهم البحث في كيفية انتقالهم من مدرج الجماهير التي تتابع وتترقب وتشاهد إلى ساحة اللعب مع الكبار سواء في الإقليم أو في العالم.