ورغم قيام السلطات النقدية برفع سعر الفائدة وهو إجراء تقييدي للنمو الاقتصادي، إلا أنّ سعر الفائدة يبقى أقل كثيرًا من معدل التضخم الفعلي، وأقل أيضًا من معدل التضخم المعلن رسميًا، وهو ما يعني أنّ الفائدة الحقيقية على الودائع، وهي تعادل سعر الفائدة مطروحًا منه معدل التضخم، تبقى سلبية وبأرقام كبيرة تتجاوز 5%.
أي أنّ من يودع أمواله في البنوك يخسر جزءًا من قيمتها الحقيقية أي قدرتها الشرائية التي تتآكل بفعل التضخم حتى بعد إضافة الفوائد عليها، وهو ما يبدو جليًا لو قارنا من استخدم مدخرات بقيمة محددة في شراء أجهزة معمرة، ومن فضّل الادخار ليكتشف أنّ القيمة نفسها بفوائدها أصبحت لا تشتري تلك الأجهزة.
تحتاج الصناعة التحويلية إلى خبرات صناعية ومهنية وتسويقية لا تتوفر للغالبية الساحقة من المدخرين
وهناك مدخرون لا يملكون أي خبرات استثمارية ويفضّلون الاستسلام القدري لمستوى الفائدة الذي تقدّمه لهم البنوك التي يودعون مدخراتهم فيها، وهؤلاء كثر ويخسرون قسمًا مهمًا من القدرة الشرائية لمدخراتهم لأنّ سعر الفائدة الحقيقي على الودائع سلبي فعليًا.
ونتيجة لأنّ سعر الفائدة الحقيقي سلبي بسبب تدني سعر الفائدة عن معدل التضخم، فإنّ قسمًا مهمًا من المدخرين تحوّل إلى البحث عن بدائل أخرى. والبدائل التي اتجه إليها المدخرون لاختزان قيمة مدخراتهم هي الذهب والأراضي والعقارات والدولار، بينما تحتاج الصناعة التحويلية إلى خبرات صناعية ومهنية وتسويقية لا تتوفر للغالبية الساحقة من المدخرين، لكن التوجه إليها، إن حدث وتجاوز العوائق البيروقراطية والتسلطية، لإنتاج بدائل للواردات بمنطق الإحلال محل الواردات هو الأفضل للدولة وللأفراد لتخفيض العجز التجاري الضخم، ولتقليل الحاجة للدولار ودعم العملة الوطنية.
الذهب ملاذ لحفظ القيمة محاط بمخاطر الغش والتلاعب وشلّ الاقتصاد
الذهب بطبيعته مخزن للقيمة وليس له أي فعالية اقتصادية في إنتاج السلع والخدمات التي هي الاحتياج الفعلي والماس لتطوير الاقتصاد المصري، لكنه يبقى لمن يشترونه حافظًا للقيمة في وقت تعاني فيه عملة بلادهم من الاضطراب والتدهور وستظل كذلك حتى لو تم تحريرها كليًا.
لكن سعر الذهب يتحرك تبعًا لحركة سعر الدولار، وبالتالي فإنّ اضطراب ذلك السعر ووجود شركات ومؤسسات ومضاربين ومزوّرين يعبثون في أسواق الصرف والذهب يمكن أن يوقع بعض المتجهين لاقتنائه في شراك هؤلاء، لذا ينبغي التعامل بحذر وعدم الانسياق وراء حمى الشراء عندما ترتفع الأسعار بصورة مبالغ فيها، لأنّ من يعبثون في السوق يحرّكون السعر لأعلى ليبيعوا ما لديهم، ثم يعيدون الشراء بأسعار أدنى عندما يحركون السعر لمستويات أدنى ويثيرون المخاوف بشأن استمرار انخفاضه.
استغل لصوص ومحترفو الغش الإقبال الكبير على شراء السبائك الذهبية في تمرير سبائك مغشوشة
كما ينبغي الحذر أيضًا من تزوير السبائك الذهبية بخلطها بمعادن أخرى، حيث استغل بعض اللصوص ومحترفي الغش، الإقبال الكبير على شراء السبائك الذهبية كملاذ لحفظ القيمة، في تمرير سبائك مغشوشة بمعادن أخرى أو بعيارات أقل من تلك التي يبيعونها على أساسها، وبخاصة لمن يشترون تلك السبائك من جهات غير رسمية.
الأراضي الزراعية ملاذ آمن ومنتج بشرط كفاءة التوظيف
اتجه البعض لشراء الأراضي الزراعية والبعض منها أراضي حديثة الاستصلاح، وهو اتجاه جيّد شرط ألا يتم التعامل معها كمخزن راكد للقيمة، بل يجب أن يقترن الشراء للأراضي الجديدة بتجهيزها للزراعة وتحقيق أقصى استفادة منها من خلال الإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي، لأنها في هذه الحالة تحقق دخلًا جيدًا لحائزيها وتضيف طاقة إنتاجية للاقتصاد تسهم في زيادة المعروض من السلع الزراعية بما يؤدي لضبط أسعارها وتوفير إنتاج زراعي قابل للتصنيع أو التصدير.
ويتميّز الاستثمار في هذا القطاع بتوفر الخبرات اللازمة في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني والسمكي. ويمكن توظيف خزانات المياه في الأراضي المستصلحة في المناطق الجديدة والصحراوية، سواء كانت مياه جوفية أو مأخوذة من أحد فروع النيل، في الاستزراع السمكي، فالأسماك تعيش في المياه لكنها لا تستهلكها، وبالتالي فإنها لا تحتاج لمياه إضافية، بل لتجديد الأوكسجين فيها بوسائل متاحة وسهلة. وعلى الدولة أن تكون أكثر وعيًا في رعاية هذا النمط من الاستثمارات بدلًا من القوانين الجامدة والتربص بالمستثمرين في الأراضي المستصلحة وبالذات فيما يتعلق ببناء الحظائر لتربية الماشية والطيور، واستراحات الإقامة طالما أنها في حدود النسبة التي يحددها القانون سواء تم البناء بعد الحصول على التراخيص أو قبله في الحالات التي يتعذر فيها ذلك مع ضرورة زراعة الأرض والاستثمار في الثروة الحيوانية.
العقارات ملاذ محاط بمخاطر انفجار الفقاعة وتدني العائد
اتجه البعض لشراء العقارات سواء كانت أراضي للبناء أو وحدات سكنية. ولو تم تجميدها والاكتفاء بكونها مخزن للقيمة فإنها تشل الاقتصاد وتشكل مجرد عملية تجميد لمدخرات كان من الممكن توظيفها في مجالات أكثر فعالية في زيادة الإنتاج وتطوير الاقتصاد.
ينبغي شراء وحدات سكنية يمكن تأجيرها وتوظيفها في توليد الدخل وتكون مفيدة للاقتصاد
وتعاني مصر بالفعل من وجود فائض عقاري عملاق بلغ 2 مليون مبنى متعدد الشقق وكامل التشطيب ولا يتم استخدامه، وفقًا لآخر تعداد أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وذلك قبل إضافة مخزون عقاري عملاق آخر من خلال العاصمة الإدارية التي فاقمت هذا التوجه التقييدي لفعالية رأس المال. وبالتالي فإنّ توجّه المدخرين لهذا القطاع يمكن أن يؤدي للمزيد من النفخ في الفقاعة العقارية التي يمكن أن تنفجر إذا توقف تيار الشراء القادم من العاملين في الخارج، ومن بعض المدخرين المحليين، ومن الراغبين في غسيل أموالهم من الفاسدين والناشطين في الاقتصاد الأسود في تجارة المخدرات والآثار والسلاح والعملات.
ولمن يتوجهون بمدخراتهم إلى هذا القطاع ينبغي شراء وحدات سكنية يوجد طلب على استئجارها في المواقع القريبة من الجامعات أو المناطق الخدمية والصناعية حتى يمكن تأجيرها وتوظيفها في توليد الدخل، وحتى تكون مفيدة للاقتصاد أيضًا. أما شراء الأراضي لبناء عقارات جديدة فإنه يضيف كتلة جديدة للمخزون العقاري العملاق في مصر والذي يشكّل خصمًا من الأموال التي من المفترض أن تتوجه للاستثمارات التي تحتاجها مصر أكثر من أي شيء آخر في الصناعة التحويلية والتصنيع الزراعي والاستثمارات عالية التقنية. لكن من يتوجهون لشراء الأراضي والعقارات عمومًا لا يمتلكون الخبرات الاستثمارية لتأسيس صناعة تحويلية وزراعية وعالية التقنية، وبالتالي فإنّ جذبهم إليها يتطلب دورًا فاعلًا للدولة في قيادة اكتتابات لتأسيس مشروعات خاصة من هذا النوع مع ضمان حد أدنى للدخل للمساهمين فيها من خلال طرح سندات مضمونة العائد بحد أدنى ملائم للمكتتبين فيها.
الدولار ملاذ آمن لكنه يشلّ الاقتصاد.. والحل بيد الدولة
اتجه البعض إلى بيت الداء مباشرة، أي إلى اقتناء الدولار والعملات الحرّة الرئيسية كملاذ ومخزن للقيمة في وقت تتعرض فيه عملة بلادهم للاضطراب والتدهور أمامه هو وتلك العملات.
والمشكلة في هذا الخيار تتمثّل في أنّ المخاوف الحقيقية أو الوهمية من قيام الحكومة بتقييد تصرفاتهم في حساباتهم بالدولار أو تلك العملات، يؤدي إلى احتفاظ البعض منهم بمدخراتهم خارج الجهاز المصرفي، وبالتالي تخرج عمليًا من كونها ضمن الاحتياطي النقدي الأجنبي الفعّال للدولة. وكالعادة يتصوّر البعض أنّ استخدام القبضة الأمنية والتجريم هو الحل، وهو ليس كذلك ولن يكون فعّالًا في هذا الصدد وسيلقي فقط بأعباء مضاعفة بلا جدوى على جهاز الشرطة، فتغيير هذا السلوك يتطلّب وجود سعر صرف واحد مستقر نسبيًا. كما يتطلب توفير الدولار والعملات الحرّة للأنشطة القانونية التي تتطلّب الاستيراد وبخاصة في القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الصناعة التحويلية.
كما يتطلّب إيقاف سياسة بيع الممتلكات العامة للأجانب والتي وضعت الدولة لها استراتيجية رديئة من خلال وثيقة "سياسة ملكية الدولة"، وأيضًا من خلال حرية الصندوق السيادي في هذا الشأن، فموجة البيع الراهنة للأجانب لها تبعات اقتصادية، وبخاصة على استقرار سعر صرف الجنيه المصري، فهؤلاء الأجانب سوف يستنزفون رصيد الدولة من الدولار والعملات الحرّة في تحويل أرباحهم، بما يشكّل ضغطًا جديدًا على الجنيه المصري، وغالبيتهم الساحقة لم تنشئ أصولًا إنتاجية جديدة، بل تشتري أصولًا إنتاجية وخدمية قائمة فعليًا وغالبيتها متوجهة للسوق المحلية وليس للتصدير. وقد حقق ميزان دخل الاستثمار عجزًا بلغ -17318 مليون دولار في العام المالي 2022/2023، بعد أن كان العجز -5914 مليون دولار في العام الأول لحكم الرئيس السيسي 2014/2015.
السياسات التي خلقت الأزمة لن تكون هي التي تخرج الاقتصاد المصري منها
كما أنّ تحقيق الاستقرار لسعر صرف الجنيه المصري يتطلّب ترشيد الإنفاق العام وبخاصة على البنية الأساسية المرتبطة باستيراد أي مكونات ومدخلات من الخارج. أما العلاج الجوهري فهو مرتبط بتغيير السياسات الاقتصادية والاستثمارية، فالسياسات التي خلقت الأزمة لن تكون هي التي تخرج الاقتصاد المصري منها، وكذلك الأمر بالنسبة لمن أداروا تلك السياسات، فالتغيير ضرورة قصوى للاقتصاد للتركيز على الاستثمارات الصناعية والزراعية الإنتاجية التي تلبي الطلب المحلي وتنتج بدائل للواردات لتقليل الاستيراد، والتي تنتج سلعًا وخدمات قابلة للتصدير، لتحسين الميزان التجاري وميزان الحساب الجاري، وتأمين مورد دائم للنقد الأجنبي، يؤدي لدعم مكانة الجنيه المصري، ويوقف الدائرة الجهنمية لاضطرابه بكل آثاره الوبيلة على الاستثمار والنمو والديون والتضخم ومستويات معيشة المواطنين.
(خاص "عروبة 22")