تلك الخرافة التي طال عمرها كثيرًا، تحت ظلالها الثقيلة ازداد عدوان العدو وتفاقمت وحشيّته وقضم المزيد من الأرض العربية وما تبقى من أرض فلسطين التاريخية.
إنّ أسوأ نتائج شيوع هذه الخرافة هي اتفاقية "أوسلو" التي يوشك عمرها الآن أن يتم الثلاثين عامًا (في سبتمبر/أيلول المقبل)، وقد أنتجت «اوسلو» اختراعًا عجيبًا لم يسبقنا إليه أحد من أمم الدنيا، ألا وهو أن ينتقي العدو قطعة صغيرة من أرض الوطن المسروق يقام عليها شيء بائس مشوّه يُدعى "سلطة الحكم الذاتي" تلك التي جرى تسويقها باعتبارها مرحلة أولى وانتقالية تنتهي بعد ثلاث سنوات يتمّ خلالها التفاوض حول ما سموه قضايا الحلّ النهائي، على وعد أن تنتهي هذه المفاوضات إلى تحقيق ما يُسمى بـ"حل الدولتين"، بحيث تقام دولة فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة على مساحة لا تجاوز ٢٢ في المائة من أرض فلسطين الأصلية.
إنتهى أمر أوسلو إلى إقامة "مشروع احتلال منخفض التكاليف"
لكن ما حدث فعلًا أن لا شيء من ذلك كله حدث، بل حدث العكس تمامًا، فالمرحلة الأولى الانتقالية أضحت الأولى والأخيرة، والسلطة التي طال عمرها ثلاثين عامًا بدا بوضوح أنّ لها وظيفة واحدة فقط هي مشاركة العدو في قمع المقاومة وإعفائه من دفع أية كلفة لاحتلاله.
باختصار، إنتهى أمر أوسلو إلى إقامة "مشروع احتلال منخفض التكاليف" مع بقاء كل صور عربدات العدو ووحشيته كما هي بل زادت، وكان أخطرها ابتلاعه ما تبقى من أرض فلسطين، وهي حقيقة يشي بها أنً عدد المستوطنين الصهاينة في أراضي الضفة الغربية وقت توقيع أسلو، كان لا يزيد عن نحو ١٥٠ ألف مستوطن يسكنون ١٤٤ مستوطنة، هذا العدد تضاعف حاليًا عدة مرات، حتى قارب الـ٧٥٠ ألف مستوطن يعيشون في نحو ١٨٦ مستوطنة تبلغ مساحتها أكثر من 40 في المائة من أراضي الضفة.
أساليب المقاومة تتّسع لممارستها جبهات تمتد من الاقتصاد والسياسة إلى العمل الفدائي
والخلاصة أنّ ثقافة الاستسلام للعدو واعتباره "خيارًا وحيدًا"، تقوم على فرضية كاذبة وهي أنّ هزيمة العدو في حرب تخوضها الجيوش النظامية العربية، أمر مستحيل في ظلّ الدعم الامريكي المطلق لهذا العدو وإمداده بأقوى وأحدث أسلحة القتل.
لكنّ الحقيقة المُغيبة عمدًا أنّ صور وأساليب المقاومة التي أبدعتها الإنسانية لا تكاد تُعد أو تحصى، كما أنها تتنوع في طبيعتها وأشكالها تنوعًا هائلًا وتتّسع لممارستها جبهات تمتد من الاقتصاد والسياسة إلى العنف النبيل المتجسّد في العمل الفدائي المشروع.
إذن، ما الحل الواقعي الذي يضمن عدم الضياع النهائي لحقوقنا ومقدّساتنا في فلسطين ويكفل بقاء الحدود الدنيا من خطوط الدفاع صلبة ومتماسكة؟! .. إنه ببساطة الإعلان الفوري عن حل هذه "السلطة المزعومة" التي تُجمّل وجه العدو، وإذا حدث ذلك فسوف ينفتح المجال تلقائيًا أمام مقاومة شعبية عارمة في وجه عدو تتفاقم حماقته ويتفاقم تطرّفه العنصري، ومن ثم تنزاح عن عورته الكريهة آخر ما تبقّى له من ديكورات تجميل خائبة لكنها تكفي لتتعلّل بها حكومات في العالم غارقة في النفاق، إذ ستبدو وقتها كالشمس حقيقة إسرائيل ككيان عنصري شبيه بنظام جنوب أفريقيا العنصري -وربما أسوأ-، هذا بينما تستمرّ "أرحام" الأمّهات الفلسطينيات تقاوم وتحفظ القضية، وتحقق الخطر الوجودي الذي يتحسّب له العدو ويخشاه بوصفه كيانًا عنصريًا اغتصابيًا، والمتمثّل في ما يسمونه "الخطر الديموجرافي" أو التزايد السكاني للعرب الفلسطنيين الصامدين على أرض الوطن، ولكي تعرف مدى جدية هذا الخطر وفاعلية سلاح "الأرحام"، أختم بالأرقام الآتية:
طبقًا للإحصاءات الرسمية الإسرائيلية والفلسطينية فإنّ عدد المقيمين حاليًا على أرض فلسطين التاريخية نحو ١١ مليون نسمة، نصفهم من اليهود والنصف الثاني من العرب الفلسطينيين، والمشكلة التي تفزع المخططين الاستراتيجيين في إسرائيل أنّ معدّلات الزيادة الطبيعية والولادات في أوساط اليهود لا تتعدى ٢ في المائة، مقابل ضعف ونصف هذه النسبة عند السكان العرب، وهو أمر يجعل التفوق السكاني العربي في فلسطين متوقع وقريب جدًا، هذا طبعًا من دون إضافة نحو ٦ ملايين لاجئ فلسطيني يقيمون حاليًا في الشتات.
بالإجمال فإن عدد العرب الفلسطينيين يساوي إن لم يزد على عدد كل يهود العالم، وهذا يعني بدوره أنّ الحلّ التاريخيّ العادل من خلال تفكيك الطبيعة العنصرية للكيان الصهيوني وإقامة دولة ديمقراطية لكل سكانها، أمر ممكن، بل هو الممكن الوحيد.
(خاص "عروبة 22")