وقفت الدول العربية عاجزة أمام مداهمة الظاهرة الكولونيالية، مع ما يعنيه ذلك من زوال السيادة والانخراط في تبعية سياسية واقتصادية وثقافية عميقة وطويلة المدى، إضافةً إلى صدمة الحداثة وما تعنيه من ضرورة الانخراط في سيرورة الانفتاح على الآخر الغريب، ونهج أساليبه في التحديث وما رافقها من تجهيز وعصرنة.
وفي أعقاب هذه التغيرات والتحولات كانت بنية المجتمعات العربية وأشكال صناعة الحياة من داخلها موضوعًا مثيرًا شمل عدة ثورات ومقاومات وأشكال تحرر وانعتاق، وظلّت ملاحقة للوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية للعرب من الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج، في إطار من التدفّق الكلّي على حد تعبير "أفلاطون".
يقدّم لنا الفضاء الشبكي الكثير من القبائل المترابطة شبكيًا حول "طوطمها" الخاص
ومع ظهور ما أصبح يُعرف بمجتمعات المعلومات والاتصالات، والتحوّل نحو شبكة الإنترنيت بديلًا ثقافيًا وأيديولوجيًا عرف من القبول والانتشار ما لم تعرفه أي أداة تكنولوجية أخرى، تحوّلت المجتمعات العربية شأنها شأن معظم دول العالم إلى مجتمعات شبكية أو ما اصطلح عليها بمفهوم "الاجتماعية الإنترنيتية". حيث ساهمت شبكات الانترنيت هذه من خلال اندماجها مع الممارسات الفردية للذوات في تحوّل المجتمعات العربية وبأشكال متفاوتة من مجتمعات تقليدية تحكمها علاقات ثابتة (قرابة الدم والجوار ووحدة الأصل والهوية..)، إلى مجتمعات شبكية تتأسس علاقاتها على روابط عقدية لا متناهية (علاقات رقمية وافتراضية لا وجود لها خارج العقد الشبكية). وعليه ففهم طبيعة الوجود العربي على الانترنيت، يفرض علينا الانطلاق من مفهوم جديد للقبلية في صيغة معاصرة بوصفها منظومة معنوية وهوياتية جماعية.
تتجلى ملامح هذه القبلية واضحة في زيادة الوعي والشعور بالانتماء للآخر، الفرد الشبكي الموجود خلف شاشة الحاسوب، باعتباره أنا آخر للذات مفترضًا أو ممكنًا، شريطة أن يوافقها في الأسلوب وأشكال التمظهر الشبكي، وفي التفاعل والتعليق والتدوين والتغريد دون أن يشترط ذلك توافقًا مسبقًا في الأصل والثقافة والانتماء..، وتسيطر عليها وعلى نحو مخصوص الجماعات الشبابية، هذه الأخيرة أصبحت تهتم أكثر من ذي قبل بمعنى الحياة المشتركة الآن وهنا بين الأفراد الموجودين معًا في قبائل شبكية متكثرة (عبر التيكتوك، والإنستغرام، والتويتر، والفايسبوك، والواتساب..)، أكثر من اِهتمامها بوعود الغد الأفضل الذي تأخّر أو يكاد يتعطل نهائيًا، ومع توالي الصور ومقاطع الفيديو وأشكال التفاعل والتدوين التي يصدرها الجميع من أجل الجميع، تنبعث الأحاسيس والأفكار والصور، هذه الأخيرة "ما إن تولد حتى تخضع لقوانين خاصة"، قد يكون ذلك "شعارًا أو رمزًا عرفيًا، أي علامة عادية وشيئًا وضيعًا، وكلمة تافهة تغدو وفجأة أو بمناسبة طقس معين طوطميات وصورًا لأشياء مقدسة"، ويقدم لنا الفضاء الشبكي الكثير من القبائل المترابطة شبكيًا حول طوطمها الخاص، وقد يكون هذا الطوطم نجمًا سينمائيًا، أو رياضيًا، أو رجل سياسة أو دين أو غيره، كما قد يكون نوعًا من الفعل الجمعي المتصل بالسجالات السياسية أو الأخلاقية، أو الجنسية المختلفة، و"جميع العناصر التي تبرز رسوخ بنية روح الجماعة، ضد الفردانية، والتي تؤكد وجود هذا الجوهر الشبكي للمجتمع ما بعد الحديث".
المطلوب فسح المجال أمام القبائل الشبكية للتعبير عن حضورها بما فيه من اختلاف وتميّز وخصوصية
لقد تحوّلت الاجتماعية الانترنيتية العربية إلى قبلية متنوعة: ثقافية وسياسية واقتصادية وإثنية وهوياتية..، تتوسّع اطرادًا بفعل تزايد أعداد المتدخلين والمتفاعلين، منغمسين في بيئات معقدة من التقسيمات، والتنويعات، والشبكات، والمجموعات، والمعارف، وخلق هذا المشهد فرصًا غير مسبوقة لخلق البنية الأساسية للحوار بين الذوات العربية بتلويناتها وتبايناتها الفكرية والعقدية والأيديولوجية، في إطار مجتمع شبكي عربي موحّد يأتي من كل مكان ليلتقي في مكان واحد.
لذلك فالمطلوب حاليًا هو تحقيق شروط الضيافة الشبكية لجميع العرب، وفسح المجال أمام قبائلها الشبكية للتعبير عن حضورها بما فيه من اختلاف وتميّز وخصوصية، تؤدي فيها الاجتماعية الإنترنيتية دور فضاء عمومي مفتوح ومتمدّد من أجل الحوار والنقاش، يسمح بالكثير من التمدّد والاتساع في الأفكار والآراء كما كان الشأن مع "الأغورا اليونانية"، وفي الوقت نفسه يكون حاجزًا يحول دون حالات التغالب والتجاوز والتطاول على حقوق الآخرين.
(خاص "عروبة 22")