بصمات

"طوفان الأقصى": صدمة الوعي الغربي المعاصر

يُعتبر جيل كيبيل (المولود في 1955)، الباحث الفرنسي وأستاذ العلوم السياسية في المعاهد السياسية الفرنسية الكبرى، أحد رموز من نعتهم في أحاديث سابقة بالمنشغلين بالإسلام الفرنسي (تمييزًا لهم عن المتخصصين في حقول الدراسات الإسلامولوجية، ذلك التقليد العلمي الذي يرقى إلى أبعد من قرنين). فعلى امتداد الأربعين سنة الماضية أصدر هذا الباحث عشرين كتابًا جمعت بين الدراسات الميدانية التي تتصل بمجال الإسلام السياسي في البلدان العربية أساسًا، وهذا من جانب أول (أذكر منها "فرعون والنبي"، "جهاد أو انتشار الإسلام السياسي واندحاره"...) وتتعلق، من جانب ثانٍ، بالوجود الإسلامي في أوروبا في ضواحي المدن الكبرى، في فرنسا خاصة (أنوّه منها بـ"ضواحي الإسلام – ميلاد ديانة جديدة في فرنسا" وكذا دراسات أكاديمية وميدانية جماعية كان هو المشرف عليها).

إجمالًا يُعد جيل كيبيل، بجانب كل من فرانسوا بيرغا، أوليفيي روا، سلطة علمية يُرجع إليها في موضوع الحركات الإسلامية في العالمين السنّي والشيعي (ولعل من المفيد أن نشير أنّ دراسات غير قليلة من إنتاج هذا الثلاثي الفرنسي قد تم نقلها إلى اللغة العربية).

قبل أسابيع قليلة (مارس من السنة الحالية 2024) صدر لجيل كيبل عن دار بلون الفرنسية، الجادة، كتاب يحمل العنوان التالي: Holocaustes-Gaza Israël et la guerre contre l’Occident (المحرقات -غزة، إسرائيل والحرب على الغرب). يصح القول إنّ الكتاب، بصدوره تحت دوي قنابل تحصد عشرات الأرواح في غزّة، انفعال آني بما لا يزال يجري في منطقة الشرق الأوسط من أحداث هائلة بقدر ما هو مادة خصبة للتفكّر.

الشأن في "طوفان الأقصى" غريب مدهش وإننا جميعًا شهود على واقع جديد أحدثه في الكون

لا أحد يملك أن يتكهن بما يمكن أن تنتهي إليه الأمور من تطوّر ولا أحد يملك أن يقدّر حق قدره مدى أثره في تغيير الوعي العالمي بالقضية العربية الأولى وعلى إحداث حركية في الوعي الثقافي في بلدان الغرب خاصة. بيد أنّ الأكيد هو أنّ الكتاب ثمرة مواكبة من قبل باحث متخصص وأحد أساتذة العلوم السياسية المرموقين في فرنسا اليوم، واجتهاد في استشراف أفق الغد الممكنة متوسلًا بالمنهج الذي يأخذ به علماء السياسة ومن ثم فهو يستدعي الاهتمام.

لستُ أنتسب إلى علماء السياسة، ولستُ بالتالي من الذين يأخذون بالمنهجية التي تمليها طبيعة العلم السياسي، بيد أنّ الكتاب يثير انتباهي من جهة انشغالي بمسألة حضور العرب والإسلام في الوعي الثقافي الغربي الجماعي. وغنيّ عن البيان أنّ الكتاب موضوع النظر يقدّم لنا إحدى صور انعكاس "طوفان الأقصى" في الوعي الثقافي الغربي عامة، والفرنسي خاصة.

يتكوّن الكتاب، وهو متوسط الحجم، من أربعة فصول (غزوة 7 أكتوبر، تناقضات إسرائيل، تحليل جيوسياسي للتقتيل، صراخ على الغرب) فضلًا عن استهلال وخاتمة طويلة. وأجدني في حاجة إلى التوضيح بأنني لن أتابع بسط كل المسائل التي يبسطها المؤلف في كل فصل من فصول الكتاب على حدة. كما أجدُني، من جهة أخرى، في حاجة إلى التأكيد بأنّ مقاربة عالم السياسة، تلك التي تتوسّل بالتحليل الجيو استراتيجي وتسطّر سيناريوهات التحوّلات الممكنة على النحو المألوف في علم السياسة لا تعنيني بكيفية مباشرة، فما يشغلني هو التنبيه إلى الوعي الثقافي الغربي الراهن بعالمنا العربي، في حركية ذلك الوعي وفي حيرته. وليس من القول المرسل على عواهنه أن يؤكد المرء مرة أخرى أنّ الشأن في "طوفان الأقصى" غريب مدهش، وليس من نافلة القول أيضًا أن نقول إننا، عربًا وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين، جميعًا شهود على واقع جديد أحدثه في الكون "طوفان الأقصى".

محرقة تل أبيب أبانت أنّ الغول الذي لا يُقهر ينتصب فوق "قدمين من طين"

أجدُني، في حديثي اليوم، أمام ضرورة الاكتفاء بالتنبيه إلى الفكرة المحورية التي تقضي بالقول إنّ ما حدث يوم السابع من أكتوبر 2023 لم يكن محرقة جديدة (بفتح، أو "هولوكوست" كما في الحديث عما أحدثه النازية في اليهود) وإنما الأمر يتعلّق بمحرقات ثلاث أصابت كلًا من غزّة وإسرائيل، ثم أنّ الغرب ذاته لم يسلم منها. لكل واحدة من "المحرقات" الثلاث أثرها العميقة ودلالتها المدهشة. ربما كانت أشنعها وأشدّها إثارة للفزع والدهشة معًا عند جيل كيبل هو أنّ "محرقة تل أبيب قد أبانت عن حقيقة مزدوجة طرفها الأول أنّ التنين أو الغول الذي لا يُقهر ينتصب فوق "قدمين من طين" (والعبارة في حرفيتها للكاتب الفرنسي)، وطرفها الثاني أنّ "الدولة الملجأ ليهود العالم" (والعبارة لجيل كيبل أيضًا) لا تقدر، بمفردها، على شيء من ذلك ولا تملكه وأنها أمام حتمية نظر جديد للذات وللعالم".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن