وجهات نظر

حدث.. ولكن في مكان آخر

صباح الثاني من أبريل/نيسان، وفي البلد، التي تقول الكتب إنها ربما كانت أوّل من عرف "الدولة" في أفريقيا، كان الرئيس المصري في طريقه إلى القاعة "الجديدة" لمبنى البرلمان "الجديد" في العاصمة الإدارية "الجديدة" ليحتفل بتنصيبه لولاية "جديدة" وبتدشين ما تقول اللافتات إنه جمهورية "جديدة". في اليوم ذاته، ولكن في مكان آخر على الساحل الغربي للقارة السوداء ذاتها كان الرئيس السنغالي "المدني" المنتخَب، القادم من صفوف المعارضة، والخارج لتوّه من المعتقل يقف أمام حشدٍ من السنغاليين، ورؤساء الدول الأفارقة ليتسلّم، من الرئيس (السابق) رئاسة البلاد.

حدث.. ولكن في مكان آخر

لستُ هنا بمعرض المقارنة بين ما اختارت وكالات الأنباء أن تنقله من الصور؛ هنا وهناك. ولا بين الحدثين؛ هذا وذاك، ولا بين ما ذهب إليه التوصيف من جديد أو معتاد، فليس في المقارنة ما لا يعرفه القارئ الكريم.. كما قد لا يجمع بين المشهدين سوى مصادفة الزمان (الثاني من أبريل/نيسان) والمكان (القارة السوداء)، التي أنهكها على مدى نصف قرن من الزمان "ورثة" حركات التحرّر الوطني، الذين غلبتهم ثقافة "الأوليغاركيه" فنسوا حقيقة أنّ الحرية قرين التحرّر، وأنّ الاستبداد قرين الاستعمار، وإن اختلفت المسميات واختلف المستفيدون.

لم تعرف السنغال بعد الاستقلال ظاهرة الجمهورية "الملكية" أو "العسكرية" التي لا يخرج فيها الرئيس من القصر إلا إلى القبر

في الغرب الأفريقي المبتلى بعسكرييه، وانقلاباته، وعدائه لصناديق الاقتراع (المحايدة)، كان لافتًا أن يفوز في انتخابات الرئاسة ومن الجولة الأولى هذا الشاب الأربعيني المعارض بشيرو جمعة فاي (بالفرنسية: Bassirou Diomaye Faye)، وبعد أيام فقط من خروجه من المعتقل الذي كان قد دخله متهمًا بـ"نشر أخبار كاذبة".. ولكنها السنغال.

ككل رفاقه من زعماء حركات التحرّر الوطني في الستينيات، لم يكن ليوبولد سنجور، الشاعر والمفكر المتميّز وأوّل حاكم للسنغال بعد تحريرها (1960) ديموقراطيًا، بالمعنى المجرد والمتعارف عليه للديمقراطية، ولكنه، على غير المعتاد عند أقرانه ترك الحكم طواعية عام ١٩٨٠ لتبدأ البلاد طريقها "الأفريقي" الصعب نحو الديموقراطية.

تعرف السنغال التعدّد ثقافةً، ففيها تسع لغات محلية معترَف بها إلى جانب الفرنسية وأكثر من سبع جماعات عرقية، وإلى جانب الوثنييين تاريخًا بها ديانات وعقائد عدة، لكنها، رغم ذلك لا تعرف ما عرفته غيرها من نزاعات عرقية أو دينية أو طائفية، بل تعرف المواطنة، وتعرف أنّ الديمقراطية هي التعبير السياسي عن تلك المواطنة وأنها وحدها الضمان للمساواة والسلم المجتمعي.

لم تعرف السنغال بعد الاستقلال ظاهرة الجمهورية "الملكية" أو "العسكرية"، التي لا يخرج فيها الرئيس من القصر إلا إلى القبر، كما لا يدخله إلا على دبابة أو عبر صناديق اقتراع مشكوك في نزاهتها. فرئيسها الأول؛ سنجور (الشاعر) استقال قبل نهاية مدته، وفي عهد رئيسها الثاني (عبده ضيوف) عرفت البلاد معنى أن يخسر الرئيس الانتخابات أمام خصمه عبد الله واد (1999)، لينتقل الحكم يومها ليس فقط من رئيس إلى آخر، بل من حزب إلى آخر، وهو الأمر الذي تكرر في مشهدها الأخير بفوز بشيرو جمعة فاي بالانتخابات الرئاسية على مرشح الائتلاف الحاكم أمادو با، ليصبح أصغر رئيس في تاريخ السنغال.

في الحالة السنغالية "الثقافة الديمقراطية" حاكمة فرأينا الرئيس يتراجع ومرشّحًا معارضًا يخرج من السجن إلى القصر

ليس معنى ذلك أنّ السنغال كانت بالتعريف "جنة" ديمقراطية، ولكن ما لديها من "ثقافة ديمقراطية"، لا نعرف مثلها في بلداننا، كان دائمًا كفيلًا بحماية ديمقراطيتها تلك. شهدنا ذلك حين فكّر الرئيس المنتهية ولايته؛ "ماكي سال" في فبراير الماضي تأجيل الانتخابات الرئاسية حتى نهاية العام، ورغم أنه أعلن أسبابًا لقراره مدعومًا بمؤسسات الدولة، إلا أنّ تمسّك الشارع السنغالي بالديمقراطية كان حاسمًا في رفض قرار الرئيس. فخرجت التظاهرات والاحتجاجات رافضة لقرار التأجيل، ثم كان أن انحاز القضاء "المستقل" للشارع الثائر، أو للأحرى للدستور والديمقراطية، فأبطل المجلس الدستوري السنغالي (المحكمة الدستورية) قرار الرئيس، الذي لم تغفر له مشاريع البنية التحتية والطرق السريعة في البلد الإفريقي الفقير، ولا صور العاصمة الجديدة ذات المساكن الفاخرة في "ديامنياديو"، محاولاته "الرئاسية" المتكررة للالتفاف على الديمقراطية، والتنكيل بالمعارضة.

في الحالة السنغالية كانت "الثقافة الديمقراطية" حاكمة، فرأينا الرئيس يتراجع عن قراره، نزولًا على إرادة الشعب، واستجابة لقرار المحكمة. ورأينا مرشحًا معارضًا يخرج من السجن إلى القصر بعد أن اختاره الناس في انتخابات "حقيقية". ورأينا في صور وكالات الأنباء القادمة من (هناك) ما يُذكّرنا بصور ربيع عربي مجهَض: تظاهرات شابة مطالبة بالحرية والعدالة الإجتماعية، ثم صورًا لطوابير طويلة أمام مراكز الاقتراع، التي كما تقضي المعايير الديمقراطية لها (وحدها) الحق في أن تحسم مستقبل البلاد.

وبعد،،

ففي خطاب توليه الرئاسة تحدث الرئيس الشاب - الذي انتخبه الناس في انتخابات حقيقية - عن الاستقلال عن التبعية للغرب، وعن الديمقراطية "الحقيقية" وعن العدالة الإجتماعية، محددًا هدفه الرئيس في "المصالحة الوطنية"، ومكافحة الفساد، وضمان استقلال القضاء، وتعزيز السيادة الوطنية على أصول البلاد الاقتصادية. ولكني لم أستغرب أن أجد في صحافتنا من يتجاهل ذلك كلّه، مفضلًا، أو مجبرًا على أن يترك ما في الخبر السياسي من سياسة، ليركّز على حقيقة أنّ للرئيس السنغالي الجديد زوجتين. وهي مسألة كنتُ أحسب أنها "شخصية" بامتياز، ولكن لإعلامنا "العربي"، أو بالأحرى لأصحاب القرار فيه رأي آخر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن