تحولات إستراتيجية في الشرق الأوسط

شهد أبريل 2024 حدثين جوهريين في تطور التوازن الاستراتيجي بين إسرائيل وإيران في منطقة الشرق الأوسط. الحدث الأول، هو الغارة الجوية التي شنتها طائرات إسرائيلية على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، ما أدى إلى مصرع عدد من ضباط الحرس الثوري الإيراني، على رأسهم الجنرال محمد رضا زاهدي الذي كان مسؤولا عن عمليات نقل السلاح بين سوريا ولبنان والأردن.

ومن المؤكد أن إسرائيل كانت على علم بوجود هذا الصيد الثمين بداخل القنصلية، فغامرت بانتهاك قواعد احترام مقار السفارات والقنصليات واعتبارها جزءا من إقليم الدولة حسب اتفاقيات جنيف وفيينا. والحدث الثاني، هو الهجوم الإيراني بالطائرات المسيرة والصواريخ، الذي انطلق من داخل الأراضي الإيرانية في أول سابقة من نوعها في تاريخ المواجهة مع إسرائيل.

وفي مجال التعليق على الهجوم الإيراني، ظهر في بعض شبكات التليفزيون ووكالات الأنباء العربية والأجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي اتجاه عبثي، بحيث بدا الأمر وكأنه مسرحية وعمل متفق عليه، باستخدام معلومات خاطئة أو غير موثوق فيها، فظهرت رواية أن إيران أبلغت أمريكا بموعد هجومها على قاعدة «عين الأسد» بالعراق انتقاما لاغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في يناير 2020. وبتحري الأمر، يتبين أن المصدر الوحيد لهذا هو حديث لترامب في فبراير 2024، وهو الأمر الذي نفاه علي شامخاني مستشار المرشد الأعلى.

وظهرت أيضًا رواية أن إيران أبلغت واشنطن بموعد وساعة الهجوم على إسرائيل في أبريل 2024، وهو ما نفته الإدارة الأمريكية في 14 من نفس الشهر، مؤكدة أنها علمت بخبر الهجوم عبر وسيط سويسرى بعد ساعة الصفر. وأيًا كان الأمر، أعتقد أنه من الأفضل أن نتدبر الحديث بشكل جدي يغطي الجوانب الأكثر أهمية التي تشير إلى التحولات الاستراتيجية الجارية والمستقبلية في المنطقة. وأول جانب، هو القرار الإيراني بالهجوم على إسرائيل بأكثر من ثلاثمائة طائرة وصاروخ انطلقت من داخل إيران، وذلك رغم التحذير الأمريكي لطهران والتهديد الإسرائيلي بأن أي هجوم ينبع من داخل الأراضي الإيرانية سوف تقوم إسرائيل بالانتقام والرد عليه.

ربما شعرت القيادة الإيرانية بأن الرد هو أمر حتمي، لأن سمعة إيران ومكانتها أصبحتا على المحك بعد أن تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء. ورُبما شعرت إيران أيضًا بالثقة في قدراتها التسليحية، وأشار المتحدثون باسمها إلى أن مرحلة الصبر الإستراتيجي التي التزمت بها لسنوات قد انتهت، وسوف تنتهي معها حرية إسرائيل في اغتيال عناصر إيرانية في لبنان وسوريا، وأن أي عمل من هذا النوع سوف يكون هناك رد إيراني عليه. يتضمن الحدث أيضا أن إيران سوف تتعامل مباشرة مع إسرائيل، بدلا من اعتمادها على وكلائها في لبنان والعراق واليمن وسوريا.

في المقابل، لا بد أن إسرائيل تتدبر جيدا تأثير هذا الحدث على صورة الجيش الإسرائيلي الذي طالما رددت قياداته أنه أقوى جيوش المنطقة، وأنه قادر على الحرب على عدة جبهات. عقب الهجوم الإيراني، نشطت أجهزة الإعلام الإسرائيلي وحلفائها وأطلقت حملات إعلامية تؤكد صلابة الدفاعات الإسرائيلية التي تشمل ثلاثة مستويات، القبة الحديدية ومقلاع داود وصاروخ حيتس، وإفشالها الهجوم الإيراني وأنها أسقطت 99% من الطائرات والصواريخ قبل دخولها المجال الجوي لإسرائيل. رغم هذا الضجيج الإعلامي، فإن الحدث كشف عن عدم قدرة إسرائيل بمفردها على الدفاع عن نفسها، وأنها احتاجت إلى دعم مباشر من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. أثبتت مصر ذلك في عام 1973، عندما انهارت صفوف الجيش الإسرائيلي واستغاثت رئيسة الوزراء جولدا مائير بالرئيس الأمريكي نيكسون. وتكرر ذلك في 2024، عندما جدد الرئيس بايدن التزام بلاده بدعم إسرائيل في مواجهة التهديد الإيراني، وزار الجنرال مايكل كوريلا رئيس القيادة المركزية الأمريكية إسرائيل يوم 10 أبريل لتنسيق الخطط والإجراءات بين البلدين في حالة وقوع هجوم إيراني، ونشط مقر قيادة العمليات المشتركة بين البلدين، وشاركت قوات القيادة المركزية في تدمير الصواريخ والطائرات الإيرانية.

ولا شك أن ازدياد الدور الأمريكي في تمكين إسرائيل عسكريا، وضمان تفوقها على أي دولة أخرى في المنطقة، يعطي لواشنطن وزنا أكبر في التأثير على مكونات القرار الإسرائيلي. استفادت المعارضة الإسرائيلية بتوجيه النقد لنتنياهو الذي هزت الضربة الإيرانية مكانته، فكتب يوسي فيرتر في صحيفة هآرتس في 15 أبريل مقالا ذكر فيه، أن هذه الضربة أسقطت اللبنة الأخيرة من الجدار المهيب لسيد الأمن وهو اللقب الذي يطلقه أنصار نتنياهو عليه، وهو الذي طالما تفاخر بأنه الشخص الوحيد القادر على ردع حماس وتخويف حزب الله، والذى وعد بأن حكومته وحدها هي التي تستطيع توفير الأمن التام للإسرائيليين، وكثيرًا ما تبجح بكونه مستوى مختلفا من القادة وحارس أمن إسرائيل. وذكره معارضوه بالعبارات المسيئة والمهينة لضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، خلال أزمة ما سماه بالإصلاح القضائي.

وهُناك أخيرًا مواقف الدول العربية في هذه الأيام العصيبة ومدى التعاون الاستخباراتي والأمني بينها. لقد تغير الشرق الأوسط على مدى سنوات، وما شاهدناه في الأيام الماضية هو حصيلة ذلك التغير. وما زال الأمل معقودًا في إحياء مفهوم الأمن القومي العربي، ومعاهدة الدفاع العربي المُشترك.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن