هل سيغدر ترامب بأحمد الشرع؟

عندما أعلن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا في خطابه الشهير في الرياض، أعطى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانطباع بأنه مع سوريا قلبا وروحا. عدا عن الأبعاد السياسية للقرار وحيثياته، يجب أيضا ربطه بشخصية ترامب ونرجسيته المفرطة، ومن ثمة القول إنه قرر رفع العقوبات خدمة لمصلحته وغروره هو أيضا. في شخصيته المركّبة، يمتلك ترامب جانبا قابلا للأخذ والرد معه طالما في الأمر مصلحة شخصية وإرضاء لغروره الذاتي، ثم مصلحة لإسرائيل أو أن الموضوع لا يضر بأمنها ومصالحها.

للوهلة الأولى يبدو قرار رفع العقوبات عن سوريا بلا أيّ صلة مع إسرائيل، وربما متعارض مع مصالحها. لكنه في الأصل هو يقع في صلب مصلحة إسرائيل إذا ما فكرنا بشيء من العمق: هدف ترامب من رفع العقوبات أن ترد سوريا الكرة بإعلان دخولها في مسار التطبيع مع إسرائيل تحت إشرافه ورعايته هو شخصيا وليس أحدا غيره. هكذا يصيب عصفورين بحجر واحد.

لكن التطبيع يبدو الآن متعثرا بسبب أحداث السويداء وضلوع إسرائيل المباشر والتخريبي فيها. ورغم ذلك لم يسمع العالم من ترامب تنديدا صريحا بالعربدة الإسرائيلية في سوريا. ولم يسمع منه دعوة صريحة لإسرائيل كي تتوقف عن تهورها وتسحب قواتها. ولم يسمع منه أنه أبلغ رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أن ما يفعل في سوريا قد يحرم إسرائيل من الجائزة الفضية، التطبيع مع سوريا (الجائزة الذهبية موجودة في الرياض). بل لما انتشرت الأخبار ليلة الجمعة إلى السبت عن هدنة في سوريا، صاغها الطرف الأمريكي بعبارة "اتفاق بين نتنياهو والشرع على وقف إطلاق النار"، كأنه كانت هناك حرب ضروس بين الدولتين وجيشيهما!

إذا استمرت الاضطرابات في جنوب سوريا ومعها تعثّر التطبيع مع وإسرائيل سيتطور الموقف الأمريكي إلى تحميل الرئيس الشرع المسؤولية كاملة. يجب القول مرة أخرى إنه عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، يصبح ترامب شخصا آخر يدور في فلك آخر بمنطق آخر. منطق لا يتورع عن الغدر من أجل إسرائيل ويرفض مساواتها بأي دولة أخرى، أو مساواة رئيس وزرائها بأيّ رئيس أو ملك آخر. من حيث يدري أو لا يدري، يفعل ترامب كل شيء ليقنع العالم بأن أمريكا فوق الجميع وإسرائيل فوق أمريكا. إسرائيل هي الوحيدة التي لا يثير معها ترامب فواتير ما تأخذ من أمريكا من سلع وخدمات، ولا يتجرأ على إهانة قادتها عندما يزورون البيت الأبيض كما يفعل مع آخرين.

الفرق بين بايدن وترامب أن الأول سمح بأن يهينه نتنياهو المرة تلو الأخرى، ويكذب عليه بلا توقف، ثم يتقبل (بايدن) الإهانة ويُصدِّق الأكاذيب. أما ترامب فعلاوة عن أن شخصيته لا تقبل الإهانة العلنية، وفّر لنتنياهو كل رغباته وطلباته حتى لم يعد لديه أيّ سبب يضطره للكذب أو تقديم وعود ثم نكثها كما فعل مع بايدن. صحيح أن ترامب لم يشن حروبا مباشرة في منطقة الشرق الأوسط (وغيرها) باستثناء جولة القصف السريعة على إيران الشهر الماضي، وقبلها على اليمن. لكن هذا لن يمنحه صك براءة، ومن الآمن القول إن تواطؤه مع إسرائيل في جرائمها لا يحتاج إلى دليل.

فمنذ عودة ترامب إلى الرئاسة لم تمض إسرائيل خطوة واحدة في حروبها الإقليمية من دون موافقة أمريكية ومباركة البيت الأبيض.. من القصف المتكرر على بيروت وتدمير جنوب لبنان واحتلال مواقع معينة فيه، إلى التوغل في سوريا منذ سقوط نظام الأسد وتدمير كل مكونات سلاح الجو لديها، إلى مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية وخطط ضمِّها وقتل أبنائها، إلى انتهاك الهدنة في غزة شهر آذار (مارس) الماضي، إلى ضرب إيران واليمن. لم تسفك إسرائيل قطرة دم واحدة ولم تزهق روحا واحدة من دون مباركة ترامب.

أسوأ من التواطؤ الغدر وقد بلغ ذروته مع إيران وغزة. إذ بينما كانت المقاتلات الإسرائيلية تتأهب للإقلاع لقصف إيران، قبل ساعات من جولة مفاوضات مسقط، كان ترامب يتعمّد حرف أنظار العالم والإيرانيين بحديث كاذب عن تفضيله الحلول الدبلوماسية مع إيران وقرب التوصل لاتفاق معها. ويتكرر الغدر مع غزة، فبالتوازي مع الصراخ المستمر وادعاء العمل من أجل هدنة، وحتى تهديد مَن يعرقلونها، كان ترامب يطلق يد نتنياهو لإبادة النساء والأطفال بالتجويع وشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، ويوفر له الحماية محليا ودوليا. في مقابل الغدر لا أحد يذكر أن ترامب أبدى لحظة من التعاطف الصادق مع أهالي غزة. يتذكر غزة فقط عندما يُطرح أمامه موضوع الرهائن الإسرائيليين ويتحدث عنها كأنها أرض بلا ناس.

كل ما سبق يجب أن يقود إلى الاقتناع بأن سوريا ليست أفضل من الآخرين، ورئيسها ليس في مأمن من وجبة غدر سامّة هو الآخر. أخشى أنه بقليل من وسوسة نتنياهو لن يتردد ترامب في التخلي عن الشرع. هناك أنواع من التخلي، أسوأها أن يقطع التواصل معه ويحوّله إلى خصم فعدو ثم يطلق يد إسرائيل عليه وعلى سوريا، وأخفُّها أن يتجاهله ويتوقف عن دعمه. كل شيء متوقف على المقاربة الإسرائيلية لسوريا ورئيسها. ولسوء حظ الشرع أن إسرائيل غير مطمئنة له حتى الآن ولا يوجد ما يوحي بأنها ستطمئن في المدى المنظور. والدليل أن قائمة مطالبها منه تعجيزية، مثل جعل الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح، وبدليل ما ارتكبت في سوريا خلال الأيام الماضية.

بالنسبة لإسرائيل الشرع مجرد جهادي خطير لا يؤتمن جانبه ولا يمكن أن يؤتمن على دولة متاخمة لها ولها معها تداخل في النسيج الجغرافي والاجتماعي. هذا ما قد يفسر أيضا أن إسرائيل لا تبدو في عجلة من أمرها للتطبيع مع سوريا، وإلاَّ لفكرت قليلا قبل أن تفعل بها ما فعلت طيلة الشهور الثمانية الماضية.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن