إنّ متابعة الفكر الإيراني، خصوصًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، إنما تكشف عن تماهي تياراته مع تيارات الفكر العربي، فقضايا كالنهضة والحداثة والعلمنة نجدها منثورة على الضفتين يتداولها مفكرون معروفون على الجانبين. فلا يمكن لمثقف عربي أن يجهل جمال الدين الأفغاني، أو لمثقف إيراني أن يجهل رفاعة الطهطاوي، أو لأي منهما أن يجهل التشابه الكبير بين رواد التجديد الفكري الإيراني مثل مالكولم خان ورواد الفكر النهضوي العربي مثل محمد عبده، إلى حد التماثل في نقاط ضعفهما، خصوصًا ذلك التردد الملحوظ إزاء قضايا الاستنارة والعلمنة، والقبول الصريح لفكرة المستبد العادل.
لقد طمح كلاهما إلى تحقيق النهضة، وبلوغ التقدّم لمجتمعه، ولكن ثقل الموروث أعجزهما عن التبني الواضح لمفاهيم كالحداثة والتنوير والعلمنة، فاكتفيا بتوسيع أفق النص الديني ليستوعب نوعًا من العقلانية الكلاسيكية، دون استعداد للحركة خارجه، أو ممارسة النقد التاريخي له.
هل يمكن إنكار التشابه المثير بين الخميني وسيّد قطب في التأسيس لإسلام جهادي؟
يمتد هذا التشابه إلى مفكرين دينين على الجانبين، كمرتضى مطهري، تلميذ الخميني في الحوزة الشيعية، الأكثر اعتدالًا منه، الذي سعى إلى التجديد في الفقه والكلام، داعيًا إلى الاعتزال. والشيخ على عبد الرازق الذي دافع من تحت عباءة الأزهر عن الدولة المدنية بحرارة، نازعًا عباءة الدين عن جسد الخلافة، معتبرًا إياها مجرد شكل تاريخي للحكم لم ينبع من القرآن الكريم ولا تزكيه السنّة النبوية، بل صاغته الحوادث، وتوارثته العصور.
فضلًا عن ذلك يتبدى لنا وجه الفيلسوف الإيراني علي شريعتي في مرآة العبقري جمال حمدان. يُنقّب شريعتي في كتابه الأيقونة "العودة إلى الذات" عن الشخصية الإيرانية في العصور الأكمينية، والساسانية، والصفوية، والقاجارية، مؤكدًا على مركزية الهوية الإسلامية المتفتحة، وداعيًا إلى التلاحم مع الثقافة العربية، فيما يتجوّل حمدان في كتابه الأثير "شخصية مصر" عبر طبقاتها الحضارية (الفرعونية والقبطية، والإسلامية).
بل إنني أكاد ألمح ظاهرة المراجعات الفكرية التي حوّلت بعض مفكرينا عن مواقفهم الحداثية الراديكالية إلى مواقف أكثر اعتدالًا في وجوه بعض المثقفين الإيرانيين. فالمفكر القومي العلماني، جلال آل أحمد الذي تحوّل إلى الموقف النقدي عبورًا من الموقف التغريبي الذي هيمن عليه في مطلع حياته، إنما يستدعي بامتياز تجربة المفكر العربي زكي نجيب محمود الذي بدأ حياته الفكرية كداعية للوضعية المنطقية، باعتبارها مدخلًا وحيدًا للنهضة والحداثة، قبل أن ينتقل الرجل إلى الموقف التوفيقي متخليًا عن التغريب الثقافي.
وفي الأخير هل يمكن إنكار التشابه المثير بين نواب صفوي وحسن البنا في التأسيس لإسلام سياسي، أو بين الخميني وسيّد قطب في التأسيس لإسلام جهادي؟. لقد حاول قطب أن يبني دولة الحاكمية الإلهية، واصفًا كل دولة مدنية بالجاهلية التي تعني لديه حاكمية الإنسان، داعيًا المسلمين المعاصرين إلى الخروج عليها كما خرج المسلمون الأوائل على الوثنية العربية، محرّضًا الطليعة الأكثر طهرانية على قيادة هذا الخروج مثلما خرج الصحابة الكبار على الجاهلية المكية، لكن الدولة الناصرية تمكنت منه.
فارقت إيران التشيّع العلوي إلى التشيّع الصفوي الذي يخلط بين الديني والقومي
أما الخميني فاتخذ المنحى الثوري في معارضة الشاه منتصف الستينيات، متأثرًا بقطب، وهو المنحى الذي نظَّر له الخميني في كتابه "في الحكومة الإسلامية" 1971، وأسقط به الدولة البهلوية وأقام على أنقاضها حكمًا ثيوقراطيًا كـ"وليّ فقيه"، نيابةً عن الإمام الثاني عشر محمد الحسن العسكري، خروجًا من الانتظار التاريخي الطويل الذي قننه مفهوم "الغيبة".
هكذا تتجلى وحدة الإرث الثقافي بين العرب وإيران رغم واقع الانقسام المذهبي، وما أثاره من تنافر سياسي عبر التاريخ الإسلامي، خصوصًا بعد أن فارقت إيران التشيّع العلوي إلى التشيّع الصفوي الذي يخلط بين الديني والقومي، وبالأخص في نصف القرن الأخير التالي على الثورة الإسلامية.
(خاص "عروبة 22")