بصمات

نحن والغرب: التحرّر المضاعف

في احتفالات اليوم العالمي للفلسفة سألني أحدهم: ماذا يمكن أن نتعلّم اليوم من فلاسفة الغرب الذين ظهر أنهم لا يعترفون بحقوقنا ولا يطبقون معاييرهم على أوضاعنا، بل لا يصدقون حتى أفكارهم ومُثلهم التي يروّجون لنا؟ ما معنى الحديث اليوم عن الكونية والإنسانية والعقلانية، والدماء البريئة تُراق والبيوت تُدمّر والغذاء يُمنع عن السكان العزّل؟. طرح الإشكال نفسه في مرات سابقة، وذهب بعضهم إلى أنّ أفكار التنوير والحداثة وفّرت "الغطاء الشرعي" لعهود الاستعباد والاستعمار والهيمنة الغربية على العالم.

نحن والغرب: التحرّر المضاعف

في كتابات فلاسفة التنوير الأوروبيين الكبار من أمثال فولتير وكانط وديدرو، ما ينم عن نزعة عنصرية بغيضة ومركزية ثقافية مرفوضة. قبل سنوات قليلة، كرّر الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في جامعة دكار عبارات الفيلسوف الألماني الشهير هيغل حول الإنسان الأفريقي "الذي اعتبر أنه لم يدخل التاريخ بعد"، بما أثار جدلًا واسعًا في الساحة الأفريقية.

ضرورة تحرير الإنسان الشرقي للتعامل معه ككائن مكتمل الإنسانية والحقوق

وفي العدوان الحالي على غزّة، سقطت قامات فلسفية كبيرة من بينها يورغن هابرماس الذي برّر فظائع الجريمة الإسرائيلية في القطاع المنكوب.

تلك حقائق لا سبيل لإنكارها، ولكنها وجه واحد من وجوه المسألة. في دفاعنا عن حقوقنا المشروعة، نستمد أفكارنا ومعاييرنا من المدونة التنويرية الإنسانية نفسها، ونحاكم المعتدين والمتواطئين من المنظور ذاته.

لا يمكن أن ننكر أنّ أفكار الذاتية الإنسانية الحرّة والتسامح القيمي وحقوق الإنسان والشرعية الدولية... تبلورت في سياق التنوير الأوروبي، حتى ولو كانت لها جذور بعيدة في ثقافتنا وتقاليدنا الفكرية.

كان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة يقول إنه لم يستطع هزيمة فرنسا الاستعمارية إلا بفكر الثورة الفرنسية، بعد أن نجح في محاكمة الحكام والسياسيين الفرنسيين بالمنطق الذي بتبنون.

لا يعرف الكثيرون أنّ ادوارد سعيد عندما كتب كتابه الشهير "الاستشراق" سنة ١٩٧٨، لم يكن يعني سوى تبيان أنّ الخطاب الفلسفي والإنساني الحداثي في الغرب قد وظّف في شكل سلطة معرفية تقصي الآخر من خلال ضبطه ثقافيًا ومنهجيًا. وما ينتج عن هذه النظرة هو ضرورة تحرير الإنسان الشرقي من قبضة هذه السلطة المعرفية للتعامل معه ككائن مكتمل الإنسانية والحقوق.

المثير في الموضوع أنّ أغلب الذين ينتهجون نقد المركزية الغربية، يصدرون في أفكارهم عن فلاسفة ومفكرين غربيين، باعتبار أنّ نقد الحداثة والتنوير مسلك فلسفي أصيل في الفكر الغربي بدأ منذ روسو ووصل مداه مع مدرسة فرانكفورت والتيار التفكيكي ما بعد الحداثي.

مجتمعاتنا تعيش معركة الاستقلال الفكري بما يفرض عليها التحرّر من النماذج المسيطرة

السؤال الذي يتعيّن طرحه هنا هو: هل نحن بحاجة إلى مدونة التنوير والقيم الإنسانية الحداثية مع كونها شكلت محور الهيمنة الفكرية والثقافية للغرب على العالم المعاصر، أم أنّ الخيار الأمثل بالنسبة لنا هو المسلك ما بعد الكولونيالي في تفكيكه لسردية الكونية الأوروبية وما تقوم عليه من معايير الذاتية والعقلانية والوعي التاريخي؟

السؤال صعب ومعقّد، فلا مناص من الاعتراف أنّ مجتمعاتنا لا تزال في طور التطور التاريخي البطيء وتعيش مأزق ما قبل الحداثة ومن ثم ضرورة الانفتاح على مدونة التنوير والتحديث العقلاني والإنساني، لكنها في الوقت نفسه تعيش معركة الاستقلال الفكري والإبداع الحر بما يفرض عليها التحرّر من النماذج المسيطرة.

كان الفيلسوف وعالم الاجتماع المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي يتحدث عن ما سماه استراتيجية "النقد المزدوج"، التي تعني التحرّر المضاعف من سلطة التاريخ المعيق للإبداع والتحوّل ومن سلطة النموذج المهيمن. لكن الخطيبي كان يقول في الوقت نفسه إنّ بوصلة التحرّر الفكري لا يمكن أن تخرج عن استحقاقات النموذج التحديثي الذي يفرض مقاييس جديدة لتصوّر الهوية والذاتية الحضارية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن