وفي ليلة ١٣/١٤ أبريل/نيسان، جاء الرد الإيراني بهجوم واسع على إسرائيل بالمسيّرات والصواريخ، واشتعل الجدل بمجرد وقوع الهجوم وما أعلنته تل أبيب عن نجاحها وحلفائها في صده، حول قيمة الرد الإيراني، وحدث استقطاب حاد للآراء بين من يرون أنه لا يعدو أن يكون تمثيلية متفقًا عليها بين أطرافها ووصفها بعضهم بالهزلية، ومن ذهبوا إلى أنه أسّس لمعادلة جديدة للردع بين إيران وإسرائيل، وكان لكل فريق حججه، لكن هذا ليس هو موضوع هذه المقالة التي تهتم بأمر آخر هو دلالة الرد الإيراني وملابساته بالنسبة لحال النظام العربي الذي نعلم جميعًا ما آل إليه.
وقد ألحت هذه الفكرة عليَّ بمجرد الاطلاع على التقارير التي أفادت بأنّ فصائل صديقة لإيران في بلدان عربية بعينها قامت بأعمال داعمة للهجوم الإيراني، حتى ولو تم ذلك على نحو غير مباشر من ناحية، وأن بلدانًا عربية أخرى قد شاركت في التصدي للهجوم بحكم أنّ المسيّرات والصواريخ الإيرانية انتهكت مجالها الجوي.
الدول العربية كانت تختلف وتتصارع فيما بينها لكنها تتوحّد في مواجهة الخطر الخارجي
وزادت الفكرة إلحاحًا بالتركيز في حديث المصادر الإسرائيلية والأمريكية على أمل في تحالف إقليمي مستقبلي ضد إيران مبني على ما حدث من تعاون "إقليمي" في صد الهجوم، ومعلوم أنّ فكرة تأسيس تحالف عربي سنّي مع إسرائيل ضد إيران ليست بالجديدة، وإن لقيت الفشل تلو الفشل خاصة بعد التقارب الذي تم مؤخرًا بين دول الخليج العربية وإيران، لكن ما حدث ليلة١٣/١٤ نيسان/أبريل يبدو أنه أعاد الأمل لهذه الفكرة الخبيثة.
عادت بي الذاكرة إلى سنوات المد القومي في خمسينات القرن الماضي وستينياته عندما كان نموذج التفاعلات بين الدول العربية يشير إلى أنها قد تختلف بل وتتصادم وتتصارع فيما بينها لسبب أو لآخر، لكنها تتوحّد في مواجهة الخطر الخارجي، وقد حدث هذا غير مرّة كما في ١٩٦٣ التي شهدت ذروة للخلافات والصراعات العربية من مشرق الوطن العربي لمغربه بالصدام المصري-السعودي الذي بدأ في أواخر ١٩٦٢ حول الثورة اليمنية، والصدام المسلّح المباشر بين المغرب والجزائر في خريف ١٩٦٣ لخلافات حدودية، ناهيك برواسب الخلاف العراقي-العربي بسبب المطالبة العراقية بالكويت قبيل استقلالها، وانفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في سبتمبر/أيلول ١٩٦١، ومع ذلك كلّه فقد استجابت الدول العربية كافة دون استثناء لدعوة الرئيس جمال عبد الناصر في ٢٣ ديسمبر/كانون الأول ١٩٦٣ لعقد قمة عربية عاجلة للنظر في المشروع الإسرائيلي لتحويل مجرى نهر الأردن، وقد عُقدت القمة بالفعل في١٣-١٧ يناير/كانون الثاني ١٩٦٤، واتخذت قرارات مهمّة في كافة القضايا التي تصدت لها.
هذه المعادلة تلاشت منذ ١٩٧٩ نتيجة نجاح الثورة الإيرانية وتوقيع معاهدة السلام الإسرائيلية-المصرية
وتكرر النموذج ذاته بعد هزيمة يونيو/حزيران ١٩٦٧ التي تزامنت مع ذروة الاستقطاب المصري-السعودي حول اليمن، ومع ذلك فقد أعقب الهزيمة انعقاد قمة الخرطوم أواخر أغسطس/آب وأوائل سبتمبر/أيلول ١٩٦٧، وهي القمة التي أسّست لنهج سياسي عربي مشترك تجاه إزالة آثار العدوان، وتطوّعت فيها ثلاث دول ملكية عربية هي السعودية والكويت وليبيا بتقديم دعم مادي لدول المواجهة مع إسرائيل ساعدها في إعادة بناء قوّتها المسلّحة وصولًا إلى حرب أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣ التي مثّلت ذروة النجاح لمعادلة الأمن القومي العربي بخطة عمليات وقيادة مصرية-سورية مشتركة، ومشاركة قوات من ٩ دول عربية في القتال على الجبهتين المصرية والسورية، ناهيك باستخدام النفط من قِبَل الدول العربية المصدّرة له سلاحًا في المعركة.
غير أنّ هذه المعادلة تلاشت اعتبارًا من ١٩٧٩ نتيجة حدثين مهمّين، أولهما نجاح الثورة الإيرانية على النظام الشاهنشاهي في فبراير/شباط، وتوقيع معاهدة السلام الإسرائيلية-المصرية في مارس/آذار، ذلك أنّ تبني الثورة الإيرانية لمبدأ تصدير الثورة أو نصرة المستضعفين أوجد مصدرًا لتهديد أمن بعض الدول العربية وبالذات في الخليج، وبالتالي لم تعد إسرائيل هي مصدر التهديد الوحيد بالنسبة لها، كما أنّ المعاهدة المصرية-الإسرائيلية أحدثت خلافًا مصريًا-عربيًا حول سُبل مواجهة الخطر الإسرائيلي، وتطوّر الخلاف لاحقًا لقطيعة شبه تامة.
تفاقمت الأمور مع الغزو العراقي للكويت ١٩٩٠ مما أعاد الانقسام العربي بعد أن كان قد تم رأب الصدع في العلاقات المصرية-العربية على نحو نهائي في قمة الدار البيضاء ١٩٨٩، ومنذ ذلك الوقت فقدت التفاعلات العربية البينية خاصية التوحّد في مواجهة الأخطار الخارجية كما ظهر بوضوح في مواجهة الغزو الأمريكي للعراق ٢٠٠٣، إذ إنه رغم ما بدا من وحدة في المواقف اللفظية الدبلوماسية كما عبّرت عنها دورتان لمجلس وزراء الخارجية العرب في فبراير/شباط ومارس/آذار ٢٠٠٣، وقمتان عربيتان في بيروت ٢٠٠٢ وشرم الشيخ ٢٠٠٣، فإنّ واقع الحال كان يشير إلى تسهيلات فعلية عربية قُدّمت للقوات الأمريكية الغازية.
وها نحن نتابع في مشهد الهجوم الإيراني على إسرائيل سمات مشابهة من منظور عدم التوافق العربي على نهج موحّد في مواجهة المخاطر الخارجية التي تهدد الأمن العربي، فمنا من يعتبر النهج الإيراني داعمًا لأمن العرب وقضاياهم، ومنا من يعتبر إيران على النقيض تهديدًا لهذا الأمن وإرباكًا للقضايا العربية، فهل آن أوان التفكير في هذه الظاهرة التي تهدد بقاء النظام العربي ككيان متماسك؟.
(خاص "عروبة 22")