بصمات

طالوت وجالوت

في القرآن الكريم ذكرٌ لطالوت، في صراعه مع جالوت، الظالم المغتر بعدده وعدته، وحديثٌ عن انتصاره على جالوت وجنده انتصارًا يشهد بأنّ العزّة تكون للمؤمنين مهما طال الزمن وامتد سلطان الجبروت والظلام. وفي كتابه "المحرقات -غزة، إسرائيل، الحرب على الغرب" (وقد عرّفنا بالفكرة المحورية فيه في مقال سابق) يتحدث جيل كيبل عن طالوت وجالوت، ولكن الحديث يكون من نوع مغاير ويستهدف تبليغ رسالة مغايرة.

طالوت وجالوت

يستدعي جيل كيبل الرموز الدينية استدعاءً كثيرًا، كما يحلو لزملائه الباحثين في حقول العلوم السياسية أن يفعلوا ذلك كثيرًا، غير أنّ القصد البعيد من استدعاء الرموز ومن توظيفها يظلّ خفيًا - مثلما هو الشأن دومًا في الممارسة الأيديولوجية. يُشعرنا كيبل أنه يسعى إلى استكناه الدلالات البعيدة للرموز الدينية عن كل من الفلسطينيين والإسرائيليين وكذا الوقوف عند حضور تلك الرموز في المخيال الجماعي عند كلا الطرفين المتصارعين.

والفكرة التي ينتصر لها الكاتب الفرنسي هي أنّ الرموز الدينية ما تفتأ توظّف في الصراع الذي لم يتوقف قرابة ثمانية عقود، من الطرفين العربي والاسرائيلي. وفي هذا المعنى يرد ذكر طالوت (ودلالته المرجعية في الوعي الديني الإسلامي)، ويذكر جالوت Goliath) وما له من حمولة وجدانية في الفكر اليهودي-المسيحي). يتقمص الفلسطينيون، عند الباحث الفرنسي، شخصية طالوت كما يتبيّن له أنّ تلك الشخصية ترتسم في اللا شعور الجمعي أو في المخيال الجماعي الفلسطيني. يكون طالوت إذن، بموجب هذه الرؤية، هو البطل (المثل الأعلى، الشهيد، الرمز) مثلما يكون نعت "محرقة 7 أكتوبر" بالطوفان. يتعلّق الأمر بتوظيف رمزي للتاريخ الروحي، باستعادة رمزية للطوفان الذي أودى بقوم نوح. وحين تقوم "حماس" بإطلاق نعت الغزوة "المباركة" على ما "اقترفته" في 7 أكتوبر فإنها، بالنسبة لكيبل، تمتح من القاموس الديني الإسلامي، فهي تتماهى مع التاريخ الروحي للإسلام.

في خطاب كيبل تذكير لنا بأنّ الأيديولوجيا هي المجال الذي تكون فيه ممارسة التمويه في أكثر صورها قوة وبشاعة

الشأن إذن في كل الأحداث التاريخية العظمى، وفي ذكراها خاصة، يحيل على مرجعية تاريخية يكون المنتصر فيها تارة هو الإسلام (غزو القسطنطينية سنة 1453) مثلما يكون منهزمًا تارة أخرى (طرد العرب من الأندلس في سنة 1492، انكسار العثمانيين عند مشارف فيينا) فالصراع الخفي بين طالوت وجالوت لا يزال حيًا، حاضرًا يذكي نار الصراع، وكذلك هي التواريخ المشتركة كلها. فجيل كيبل يرى أنّ كل الأحداث الدامية الكبرى في تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي قد تم اختيار توقيتها على نحو يذكّر بالانتصار عند جانب وبالهزيمة عند الجانب الآخر - وبالتالي فإنّ التواريخ التي ترتبط بها "الغزوات المباركة"، بالنسبة لطالوت وشعبه تخضع للمنطق الخفي الذي يحكم التاريخ الخفي، التاريخ الديني فلا شيء محايد.

يُنبّه كيبل، على سبيل التمثيل، الى أنّ 7 أكتوبر يصادف، يومًا بيوم، النداء الذي أرسله ابن لادن من المغارة التي كانت يختبئ فيها من قندهار وقسمه بأنّ الغرب لن يهدأ له بال حتى يتحقق الثأر كاملًا فعلًا. والحق أيضًا أنه لا شيء محايد في خطاب كيبل، بل في خطاب نظرائه من "الخبراء" في ما أذاعوه من قول في الصحف وفي القنوات التلفزية الكبرى في الغرب عمومًا، وفي الغرب الأوروبي تخصيصًا. في خطاب كيبل تذكير لنا بأنّ الأيديولوجيا هي المجال الذي تكون فيه ممارسة التمويه في أكثر صورها قوة وبشاعة، هي، أحيانًا غير قليلة تكون مجبرة على أن تكون سافرة واضحة فهي تطوح بالأقنعة والمساحيق عاليًا لتغدو قولًا صريحًا مباشرًا.

المنطق الذي يحكم "حماس" واليمين الإسرائيلي المتطرّف واحد في تقدير الباحث الفرنسي

لنحاول، في أسطر قليلة، أن نرفع الحجاب عما يحاول كيبل أن يخفيه، فندفع به إلى التصريح حيث يجتهد أن يظلّ مموهًا مخاتلًا.

يشير الباحث الفرنسي، في إيماءة سريعة الى أنّ أصل الصراع بين "طالوت" و "جالوت" هو الغرب ذاته وقد أقرّ انتزاع شعب من أرضه واعتباره "وطنًا ليهود العالم"، واعتبار إسرائيل الدولة الكفيلة بتحقيق ذلك (وهو كما رأيناه، في الحديث السابق، قد أومأ بأنّ 7 أكتوبر أبان عجزها عن ذلك). بيد أنه، طيلة فصلين من الفصول الأربعة من الكتاب يكرر بأنّ المنطق الذي يحكم "حماس" من جهة واليمين الإسرائيلي المتطرّف من جهة أخرى، واحد في تقديره. ووجه التمويه هو دفع القارئ إلى قبول المبدأ الأساسي عنده: دولة (هي إسرائيل) في مقابل شعب (هم الغزاويون) من جهة أخرى. والنتيجة (عند كيبل طبعًا) هي أنّ خطر التدمير يتهدد الجميع وأنّ الغرب في حال حرب ضده من الجهات كلّها - وإسرائيل هي الحليف المنطقي في حين أنّ "المد الإسلامي" هو الخطر الأكبر الذي يتهدد الكل.

على أي نحو يغدو الغرب، من منظور المحلل الفرنسي، موضع حرب تشتعل ضده وأن الفتيل هو طوفان الأقصى؟

ذلك ما سنسعى إلى الإبانة عنه في الحديث المقبل (والأخير) الذي نفرده لكتاب جيل كيبل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن