اقتصاد ومال

التفسير الاقتصادي للصراع العربي ـ الإسرائيلي (1/2)

محمد زاوي

المشاركة

"السياسة هي التعبير المكثّف عن الاقتصاد"؛ هكذا يقول فلاديمير لينين، فهل ينفي هذا عن السياسة قدرتها على التأثير؟ أليس للسياسة وظواهرها قدر من الاستقلال الخاص عن البُنى الإنتاجية والاقتصادية؟ للسياسة تأثير بالطبع، وقد تتحوّل بعض ظواهرها - كالدولة مثلًا - إلى جزء مهم في بنية الإنتاج أيضًا، بحيث تصبح قوة من قوى الإنتاج (راجع "نظرية الدولة" لنيكولاس بولانتزاس). كل هذا صحيح، إلّا أنّه لا يخرج عن حدودِ قاعدةٍ اقتصادية ما. إنّ استقلال الدولة بالتأثير لا ينفي عنها تحدُّدَها اقتصاديًا، اجتماعيًا وطبقيًا.

التفسير الاقتصادي للصراع العربي ـ الإسرائيلي (1/2)

هذا حديثٌ عن دولة ذات سيادة، ذات شرعية ومشروعية، ذات إقليم وشعب وسلطة. أمّا عندما نتحدث عن كيان دخيل ووافد، كالكيان الصهيوني، فإنّنا نكون بصدد "تأثير سياسي مفتعَل ومصطنَع وغير طبيعي"، يجب البحث عن محدِّداته الاقتصادية الفعلية التي لولاها لما استمر له وجود في المشرق العربي. فمِن شأن هذه المحدّدات أن تكشف طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، كما من شأنها أن تكشف الستار عن نوع التهديد الذي يشكله الكيان الصهيوني في المنطقة.

تأسيس كيان دخيل في العمق الاستراتيجي للوطن العربي كان الغرض منه الوصول إلى الثروات وعرقلة سُبل الوحدة

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تراجعت إلى الخلف قوى سياسية قديمة (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) وسعت أخرى جديدة للهيمنة الاقتصادية والسيطرة السياسية (الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد السوفييتي). تأسيس الكيان الصهيوني هو وليد هذه المرحلة بالذات، وهو أساسًا امتدادٌ للسياسة الإمبريالية الأميركية في الوطن العربي. كذلك كان وما زال، يتأثر بالسياسة الأمريكية وتقلّباتها. وعندما نتكلم عن السياسة الأميركية فإنّنا نتكلم عن سياسة الرأسمال المالي الأميركي بالذات، استحضارًا لما لهذا الرأسمال من مصالح في الشرق الأوسط.

لم تكن الإمبريالية ترى في الوطن العربي مصدرًا للثروة فحسب (النفط والغاز والطاقات المتجدّدة)، بل قوة صاعدة يمكنها قلب المعادلة إذا ما توفرت لدولها شروط الاتحاد السياسي والعسكري والتكامل الاقتصادي، وإذا ما لعب الإسلام الوحدوي والسلمي (لا الإرهابي ولا التفكيكي) دوره كما يجب في هذه المعادلة.

تأسيس كيان دخيل في العمق الاستراتيجي للوطن العربي، كان الغرض منه - وما يزال إلى أجل - هو الوصول إلى الثروات الطبيعية والبشرية والتحكّم بها، وعرقلة سُبل الوحدة الاقتصادية والسياسية. يشكل هذا الكيان مصدر تهديد عسكري واستخباراتي لكافة الدول العربية، خاصّة تلك المحيطة به، وتلك التي تزخر بقيمة حضارية كبرى كمصر وسوريا (الشام) والعراق.

التدخل الإمبريالي في الوطن العربي اتخذ شكلين: الأول غير مباشر أبرز مظاهره تأسيس الكيان الصهيوني ودعمه ثم اصطناع فتنة "الربيع" عام 2011، والثاني مباشر اتخذ تجليًا سافرًا باحتلال العراق وإيقاف مسيرته التنموية عام 2003.

سياسة إمبريالية تعبّر في الأصل عن مرحلة متقدّمة من مراحل الرأسمالية الاحتكارية

لقد اتخذت الإمبريالية الغربية من الكيان الصهيوني، منذ تأسيسه عام 1948، وسيلة لممارسة صراعها وتدبير تناقضها المحتدم مع الاتحاد السوفييتي، وذلك إلى حدود ضعفه وتفككه وسقوطه (1989). وعن طريق الكيان إياه تمّ استهداف الدول العربية الصاعدة والتي تجمعها علاقة استراتيجية بالسوفييت، كما تمّ استهداف حركات التحرر الوطني العاملة في الاستراتيجية ذاتها. إنّها سياسة إمبريالية جديدة، إلّا أنّها في الأصل تعبّر عن مرحلة متقدّمة من مراحل الرأسمالية المالية الاحتكارية، والتي يمكن أن نطلق عليها "أعلى الأعلى" باستصحاب أطروحة ف. لينين "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".

هذا صراعٌ سياسيٌ وعسكريٌ جذوره اقتصادية؛ وهناك صراعٌ آخر، اقتصاديٌ مباشرٌ، راهنت الإمبريالية الغربية على خوضه عن طريق الأداة الدخيلة والمختلَقة قسرًا، أي الكيان الصهيوني. من مظاهر هذا الصراع المباشر: اختراق الاقتصادات الوطنية وإضعافها، الابتزاز في الثروات والموارد (النفط والغاز)، وإرباك التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية الطبيعية في الوطن العربي، وهذا ما سوف نفصل فيه مليًّا في المقال القادم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن