عندما اقتحمت الشرطة الحرم الجامعي لفض الاعتصام، واعتقلت مئات الطلاب، كما يجرى في بلدان عالمنا الثالث، لم تتراجع الانتفاضة بل زادت حدّتها وانتقلت شرارتها إلى خارج الولايات المتحدة، خصوصًا إلى جامعات سيدني في أستراليا، ومعهد العلوم السياسية والسوربون في باريس، وجامعة لندن، والأغلب أن تتسع رقعتها، وأن يعلو صوتها، وأن تستقطب اهتمام العالم في الأيام المقبلة.
مطالب الطلبة لا يرفضها إلا من يعادي الإنسانية
تُحرّكها الدوافع الأخلاقية السامية وتُلهمها التطلعات الإنسانية العادلة، فالشباب دومًا هم ضمير العالم، يتمتعون بقدر من البراءة لم تنل منه الحياة، وقدر من الطهرانية الأخلاقية لم تدنّسه أدران المصالح السياسية، لا يجمعون على موقف إلا إذا كان نبيلًا، ولا يرفضون واقعًا إلا إذا كان مخزيًا للضمير الإنساني.
يرفع الطلبة ثلاثة مطالب رئيسية وهي:
- وقف الحرب الهمجية على غزّة.
- إيقاف الدعم العسكري لإسرائيل، خصوصًا من الأسلحة المتقدّمة، لأنّ هذا الدعم هو ما يشجعها على الاستمرار في العدوان.
- وأخيرًا، وقف استثمارات جامعاتهم نفسها داخل إسرائيل أو في الشركات الكبرى التي تتعامل مع إسرائيل وتستثمر فيها، خصوصًا شركتا "أمازون" و"جوجل"، لأن تلك الاستثمارات تمثل رافدًا مهمًا يغذي قوة إسرائيل ويزيد من وحشية جرائمها، التي باتت الكلمات عاجزة عن وصفها.
تبدو هذه المطالب موضوعية تمامًا، وعادلة جدًا، من وجهة نظر أي شخص يتمتع بقدر من الحس الإنساني، رأى بعضًا ولو نادرًا من مشاهد العدوان على أهل غزّة، أو سمع بعدد ضحاياهم خصوصًا من النساء والأطفال، أو تخيّل أهوال الجوع والعطش التي تلاحقهم.
مطالب لا يرفضها إلا من يعادي الإنسانية، لكن نتنياهو سارع واتهمها، والحراك الطلابي كلّه، بمعاداة السامية، وأيّده في ذلك جمهوره من اليمين الديني والسياسي المتطرّف، وجماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، وبؤر اليمين السياسي المنتشرة في أوروبا.
إنه بالقطع اتهام مضحك، فالحراك يعادي همجية إسرائيل كدولة صارت مارقة، تقف متهمة بجريمة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، ولا يعادي من قريب أو بعيد اليهودية كعقيدة وثقافة أو حتى اليهود كشعب، بل إنّ بعض أبرز الناشطين في الحراك هم من الطلبة اليهود، خصوصًا من جماعة الصوت اليهودي لأجل السلام.
لكن، ورغم سهولة دحض الاتهام نظريًا، تظلّ المهمة صعبة واقعيًا، لأنّ عموم اليمين الأمريكي يؤيدونه، والجمهوريين يتبنونه، وبعض الديمقراطيين يزايدون عليهم للدوافع الانتهازية المألوفة، سياسيًا وانتخابيًا، ناهيك بالطبع عن لوبي رجال الأعمال من الصهاينة الذين يتبرعون للجامعات بهدف السيطرة على الطبقة الأكاديمية، والذين يهددون بسحب تبرعاتهم، ووضع الطلبة النشطين في الحراك على قوائم سوداء تحرم المفصولين منهم من الالتحاق بجامعات أخرى، وتصعّب من حصول المتخرجين على فرص عمل في الشركات الكبرى الخاضعة لسيطرة لوبي المال والأعمال اليهودي المباشرة، أو حتى لنفوذه السياسي غير المباشر.
لنا أن نتصوّر حال أمريكا عندما يحتل طلاب هذا الجيل الثائر مواقعهم في الطبقة السياسية الحاكمة
ليس مؤكدًا أن تحقق الانتفاضة مطالبها الثلاثة كاملة، وقد لا تنتج أثرها المرجو سريعًا، فثمة عوائق كثيرة تقف في طريقها وتحول دونها وأهدافها، على رأسها موقف عموم الطبقة السياسية الذي لا يزال مناوئًا لها رغم دعم النخبة الأكاديمية وبعض المثقفين وعموم الشباب خارج أسوار الجامعات. بل إنّ الكونجرس لم يتوانَ عن محاولة قمعها منذ بدايتها، حينما استدعى رؤساء الجامعات التي شملها الحراك ومساءلتهم وتوبيخهم وتكليفهم بوأدها في مهدها، مما اضطر بعضهم إلى الاستقالة احترامًا لحرية التعبير.
لكن المؤكد أنّ انتفاضة 18 أبريل/نيسان سوف تترك أثرها الثقافي العميق في عالمنا الراهن مثلما تركت انتفاضة مايو 1968 أثرها الثقافي في ضمير الإنسانية المعتل. لقد نجت بالفعل في فضح عالمنا الذي فقد مروءته وإنسانيته، بحيث تجرى فيه المذابح مصوّرة، دون أن يتحرك لردع القتلة. والأغلب أن تنجح على المدى القريب في تلويث سمعة إسرائيل إلى الأبد، وفي النيل من سمعة الولايات المتحدة، وإنهاء حكم جو بايدن في الانتخابات القادمة، أما على المدى البعيد فلنا أن نتصوّر حال أمريكا بعد عقدين أو ثلاثة، عندما يحتل طلاب هذا الجيل الثائر مواقعهم في الطبقة السياسية الحاكمة.
(خاص "عروبة 22")