يجوز لنا القول إنّ المنمنمات كانت عبارة عن أولى المحاولات الإبداعية لما يُعرف اليوم بالكتب المصوّرة الأميركية أو المانجا اليابانية. فقد تفنّن الرسام الفارسي في رصد الحركة وتحويلها إلى قطع فنية تحكي قصصًا إنسانية وتجسّد تباين المشاعر كالغضب والخوف والحكمة أو نشوة الانتصار. استخدم صانعو المنمنمات تقنية انعكاس الضوء عبر اللون في لوحاتهم، مما منحها عمقًا إستطيقيًا نادرًا.
لم يقتصر فن المنمنمات على تصوير أحداث البلاطات الملكية والسلطانية، بل انتشر هذا الفن بين مدوّني الكتب والمؤلفات الأدبية، نذكر منها كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع، وكتاب "الأغاني" للأصفهاني و"مقامات" الحريري وغيرها من الأعمال الأدبية. ويُعد كمال الدين بهزاد الذي عاش في القرن الرابع عشر ميلادي، أشهر رسّام منمنمات فارسي..
رحلة الفن الإيراني من الزخرفة الإسلامية إلى الفن السابع
استمر افتتان الفنان الفارسي بعناصر الضوء واللون والحركة لقرون طويلة، إلى أن جاءت الكاميرا لتُعزّز العلاقة القوية بين إيران وفن الحكاية عبر الصورة. تقول الرواية التاريخية إنّ الشاه الإيراني مظفر الدين شاه قد قام سنة 1890 بجلب أول آلة تصوير إلى بلاده بعد جولة في إحدى الدول الأوروبية، ليتم بعدها افتتاح أول صالة عرض سينمائي في إيران عام 1904.
استمر عرض الأفلام السينمائية الأجنبية المدبلجة في قاعات السينما إلى حدود سنة 1930 التي شهدت إنتاج أول فيلم إيراني صامت بعنوان "آبي ورابي" لمخرجه أفانيس أوهانيان. ظلّت السينما الإيرانية صامتًة طيلة عقد من الزمن، ليتم تقديم فيلم "الفتاة اللرية" كأول عمل ناطق عام 1940 للمخرج عبد الحسين سبنتا.
يجوز لنا القول إنّ هذا الفيلم كان بمثابة الانطلاقة الفعلية للإنتاج السينمائي في إيران. غير أنّ هامش الحرية الفنية ظل محاصرًا من طرف الأنظمة السياسية المتعاقبة، حيث شهد صنّاع السينما تضييقًا كبيرًا سواء من طرف نظام الشاه الذي أراد استخدام السينما كأداة دعائية تروّج لصورة وهمية لما أسماه "إيران المعاصرة"، أو من طرف نظام الملالي بعد نجاحهم في الاستيلاء على السلطة، بل أشهر هؤلاء مقص الرقيب في وجه المبدعين، ونصبوا لهم المشانق الحرفية، وأقاموا محاكم تفتيش تعاقب على خطيئة التفكير الحر.
فكيف استطاعت السينما الإيرانية مناهضة الظلم وفك أغلال الرقابة الأخلاقية عبر الصورة؟
المدرسة الواقعية الإيطالية.. ومحاولات الخلاص الفارسية
من المعلوم أنّ السينما الإيرانية الحديثة تعتمد بشكل كبير على المدرسة الإيطالية الواقعية، وتستوحي من أسلوبها الفني العديد من تقنيات التصوير والسينماتوغرافيا وفنون السرد. وكمثال على ذلك نجد الفيلم الإيراني النوعي "افتراق"، من إخراج أصغر فرهادي والحائز على جائزة الأوسكار كأفضل عمل أجنبي سنة 2012.
يُعتبر "افتراق" انعكاسًا لواقعية المدرسة الإيطالية، حيث يجد المشاهد نفسه في اتحاد تام مع بساطة الشخصيات، وفي صراع مرير مع تعقيد واقعهم.
لم يكن "افتراق" الفيلم الإيراني الوحيد للمبدع أصغر فرهادي الذي حصد جوائز عالمية، حيث نجد كذلك فيلم "البائع"، إنتاج سنة 2016 وبطولة كل من شهاب حسيني وترانه عليدوستي. نجح هذا الفيلم في معالجة موضوع اجتماعي حسّاس، وهو الاعتداء الجنسي ضد النساء، إذ يصعب الحديث عن فعل الاغتصاب داخل مجتمع تسيطر عليه التقاليد الدينية المتشدّدة والأعراف القبلية الصارمة. لم يقدّم المخرج رؤية منحازة لأي طرف، بل سمح للكاميرا بالانتقال بسلاسة لترصد لنا الحالة الإنسانية في تعاملها مع الإحساس بالعجز والذل والرغبة الجامحة في الانتقام. حصل "البائع" على عدة جوائز دولية مصنّفة، وعلى رأسها جائزتا الأوسكار ومهرجان كان لأفضل فيلم أجنبي، وجائزة أفضل ممثل تحصل عليها شهاب حسيني في كان 2016.
تتميّز السينما الإيرانية برصدها لمعاناة الطبقات الاجتماعية المسحوقة، وتسليط الضوء على أشكال التسلّط الديني والأخلاقي للزمرة الحاكمة. كل هذا من خلال اعتماد أسلوب سردي شديد الواقعية والسوداوية. أسلوب يعكس حقيقة مأساة الإنسان الإيراني الذي يرزح تحت وطأة التشدّد والاستبداد والراديكالية الدينية.
لا نستطيع الحديث عن السينما الإيرانية دون الإضاءة على الفيلم المصوَر "بيرسيبوليس"، إنتاج عام 2007 ومن إخراج الثنائي الإيراني الفرنسي مرجان سترابي ووينشلاس، الذي يُعتبر من أهم الأعمال السينمائية التي رفعت سقف الجرأة في تناول الأزمات السياسية وموجات التشدّد الديني التي اجتاحت البلاد عقب نجاح ما سُمّي بـ"الثورة الإسلامية" التي استولت على السلطة.
يرافق الفيلم شخصية "مرجان" الشابة الإيرانية الثائرة والتي نشأت تحت نظام الحجاب الإجباري والتفرقة بين الجنسين في الأماكن والمؤسّسات العامة. يدخل فيلم "بيرسيبوليس" تحت صنف درما ما يُعرف بـComing-of-age حيث اختبر المُشاهد جميع المراحل العمرية التي مرّت بها مرجان، ابتداءً من طفولة مهزوزة في بلد مضطرب سياسيًا وأمنيًا، وانتهاءً بعملية الفرار الكبير الذي ألقت بها في شوارع أوروبا الباردة، كمهاجرة فقيرة متشردة.
تحمل مرجان مشاعر متناقضة بين حبّ الوطن، وسخطها على استمرار رموز التطرّف والراديكالية الفكرية في السيطرة على السلطة، وترمز البطلة نفسها إلى المرأة الإيرانية التي لا زالت وإلى حدود اليوم ضحية سياسات جندرية تعسفية.
وفي هذا السياق، نجد أيضًا الفيلم الإيراني "نساء بدون رجال"، المقتبس عن رواية للكاتبة شهرنوش بارسيبور، والذي يصوّر معاناة نساء من طبقات اجتماعية مختلفة، فرقتهن الألقاب وجمعتهن المعاناة تحت نظام أبوي متشدّد. ينتهي الأمر بأولئك النسوة بالعيش سويًا في حديقة بالعاصمة طهران، ليصنعن لأنفسهن عالمًا خياليًا يستطعن فيه ممارسة إنسانيتهن وأنوثتهن دون ملاحقة الشرطة الأخلاقية. فيلم "نساء بدون رجال" يحمل رمزية شديدة مستوحاة من التقاليد الصوفية الإسلامية والتاريخ الإيراني المعاصر.
خلال العقود الماضية تحقّق تراكم سينمائي إيراني صريح، كانت أهم أسبابه مرتبطة بالماضي السحيق من جهة، ومرتبطة على الخصوص بحقبة الانفتاح في حقبة "حكم الشاه"، قبل قدوم "نظام المرشد" الذي أعاد المشهد إلى الوراء من فرط التشدد والحصار، بما يُفسّر انخراط عدّة أعمال سينمائية إيرانية، وخاصّة تلك التي تطرقت لقضايا المرأة الإيرانية، إلى تبني خيار الالتزام الأخلاقي بقضايا التحرّر والانعتاق.
وفي الضفة الأخرى من المنطقة نفسها، لا يمكن أن نغفل التاريخ السينمائي العربي الحافل بأعمال نوعية وخالدة انتصرت هي أيضًا للإنسان وقيَم العدالة والمساواة، إلّا أنّنا نطمع في المزيد، ونطمح لسينما عربية معاصرة مؤهلة لكي تذهب بعيدًا عن مقص الرقيب وقريبًا من روح المنطقة العربية.
(خاص "عروبة 22")