ومع بداية عام 1924، أخذ بعض من الشباب في لبنان من متعلمين وعمال تأسيس جماعة شيوعية تحت اسم حزب الشعب، الذي سيتخذ عام 1928 اسم الحزب الشيوعي. وفي العراق بدأ النشاط الشيوعي عام 1924، قبل أن يتأسس الحزب بعد عشر سنوات. كذلك عرفت بلدان عربية أخرى بروز النشاط الشيوعي مثل الجزائر التي ارتبط نشاط الشيوعيين فيها بالحزب الشيوعي الفرنسي. ولا شك بأنّ ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917، كانت سببًا رئيسيًا في انتشار المجموعات الشيوعية في البلدان العربية وغيرها من البلدان. وقد اشتد صعود الشيوعيين في مصر ولبنان وسوريا (كان الحزب موحدًا في البلدين) وفي العراق. واتسعت قواعد الأحزاب الشيوعية التي كانت تسعى إلى ضمّ العمال والأجراء.
بالرغم من الصراعات الأيديولوجية كانت الاتجاهات الشيوعية والدينية والقومية تشترك في العداء للاتجاهات الليبرالية
وشهدت العشرينات والثلاثينات بروز اتجاهات أيديولوجية ذات مرجعيات نظرية وتراثية، مثل الأخوان المسلمين الذين تأسست جماعتهم على أيدي حسن البنا كجمعية دعوية وسرعان ما انخرطت الجماعة في العمل السياسي والعمل السرّي مع تبلور أيديولوجية أخوانية تهدف إلى أسلمة المجتمع والدولة، وفي الثلاثينات برزت الأحزاب القومية تحت تأثير ظهور الأحزاب القومية في أوروبا، وأبرزها الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه أنطون سعادة عام 1932، ثم مصر الفتاة التي ضمّت شبابًا متأثرين بالفاشية الإيطالية وعلى رأسهم أحمد حسين عام 1933، وعصبة العمل القومي الذي كان التمهيد لانتشار الاتجاه القومي العربي في عقدي الثلاثينات والأربعينات وصولاً إلى تأسيس حزب البعث العربي عام 1947. وبعد اندماجه مع الحزب الاشتراكي (أكرم الحوراني) صار اسم حزب البعث العربي الاشتراكي.
وبالرغم من الصراعات الأيديولوجية بين الاتجاهات الشيوعية والدينية والقومية إلا أنها كانت تشترك في العداء للاتجاهات الليبرالية. وإذا كانت الأحزاب الوطنية ذات النزعة الليبرالية أشبه بالنوادي السياسية ويتصف تنظيمها بالمرونة. فإنّ الأحزاب الأيديولوجية كانت تستلهم التنظيمات الأوروبية، فالأحزاب الشيوعية كانت تأخذ نموذج المركزية الديمقراطية، تقف على رأس الحزب لجنة مركزية ينبثق منها مكتب سياسي وعلى رأسه الأمين العام الذي هو بمثابة القائد الذي يمضي فترات طويلة في منصبه فيصبح رمزًا للحزب. أما الأحزاب القومية فكانت أشبه بالمنظمات العسكرية التي يقف على رأسها الزعيم الملهم. وبالرغم من أنّ جماعة الأخوان المسلمين كانت أسباب نشأنها عديدة بينها العداء لانتشار الأفكار والعادات الغربية. إلا أنّ تنظيمها كان شديد السريّة يعتمد على الولاء للمرشد الذي هو بمثابة الزعيم. وإذا كانت جماعة الأخوان المسلمين هي حزبًا إسلاميًا، فإنّ الأحزاب القومية والشيوعية كانت تضم في صفوفها أعضاء من كل الطوائف والاثنيات.
الأحزاب الأيديولوجية عبّرت عن تحوّلات مجتمعية وطبقية عميقة وصعود فئات كانت مهمشة إلى المجال العام
كانت الصراعات بين هذه الاتجاهات شديدة، فالقومية العربية حتى بداية الستينات كانت ترى في الشيوعية خطرًا على العروبة. والاتجاه الإسلامي يعادي الشيوعية الملحدة والقومية التي تنتقص من الأمّة الإسلامية. وكانت الشيوعية تعادي القومية والقوى الرأسمالية والبرجوازية. وكانت السلطات الحاكمة ترى في هذه التيارات خطرًا يحب التصدي له ولم تتهاون في قمعها والحد من انتشارها. وقبل نهاية الأربعينات أُعدم "فهد" زعيم الحزب الشيوعي في العراق، وأُعدم أنطون سعادة في لبنان واغتيل حسن البنا في القاهرة. وتعرّض الأعضاء والمناصرون للرقابة والسجن بعد أن صدرت القوانين التي تمنع نشاط هذه الأحزاب. لكن التيارات الأيديولوجية من قومية ودينية وشيوعية لم يتوقف نشاطها رغم الحظر والرقابة. ذلك أنّ هذه الأحزاب لم تتشكل لقناعات مؤسسيها المبكرين بصحة الأفكار التي تبنوها وآمنوا بها فقط، ولكنها عبّرت عن تحولات مجتمعية وطبقية عميقة وصعود فئات كانت مهمشة إلى المجال العام معبّرةً عن حقوقها بالحضور والفعل في الميدان السياسي.
ومن هنا يمكننا أن نلاحظ بأنّ هذه الأحزاب التي أسّسها أفراد ينتمون إلى الفئات الاجتماعية المتوسطة والذين نالوا نصيبًا من العلم والثقافة، إنما انتشرت في أوساط الفئات البرجوازية الصغيرة والفئات الدنيا. كما انتشرت في المناطق الريفية وفي أوساط الأقليات. كما استقطبت معلّمي مدارس وصغار الموظفين. واستطاعت بالرغم من المنع والقمع أن تلعب أدوارًا في الحياة السياسية أو على هامشها بين الأربعينات ونهاية الستينات، قبل ان يصيبها الوهن والاضمحلال.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")