يعود هذا الغموض إلى عدة أسباب؛ أولها أنها مرفوعة من دولة ضد أخرى، والاثنتان ليستا طرفين في الأزمة القائمة وليس منهما المعتدي أو المعتدى عليه، مما طرح علامات استفهام وتعجب حول إمكانية قبول الدعوى. والسبب الثاني أنها أول دعوى تحاول إدانة الدول الداعمة للكيان الصهيوني، وهي بلا شك خطوة جريئة تسعى إلى وضع دول العالم كافة، وبصفة خاصة الدول الكبرى، أمام مسؤولياتها الإنسانية والتاريخية وحتى السياسية والمالية بموجب المعاهدات الدولية.
وقد أدى السببان السابقان إلى طغيان التشكيك في "اختصاص المحكمة" بنظر تلك الدعوى على الساحتين القانونية والسياسية في أوروبا، خاصة بعد الاستماع إلى مرافعات ألمانيا أمام المحكمة، وقد تسربت بعض تلك الشكوك إلى وسائل الإعلام العربية بالنقل والترجمة، دون إمعان النظر في باقي جوانب الدعوى وكيف أنها تستند إلى اتفاقية مكافحة جريمة الإبادة الجماعية التي تلزم كل دول العالم الموقعة عليها بالمبادرة إلى تطبيقها واحترامها فيما يخص كل منها.
أما السبب الثالث للغموض فيتمثل في أنّ الدعوى لها شقان، مثل الدعوى التي رُفعت من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، أولهما عاجل خاص بالتدابير المؤقتة التي سعت نيكاراجوا لإلزام ألمانيا بها ورفضته المحكمة -في الوقت الراهن-، والشق الثاني هو الموضوعي الذي لم تفصل فيه المحكمة حتى الآن بشأن تحديد مسؤولية ألمانيا في دعم إسرائيل وتمويل ومساعدة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.
ويصعب تصوّر أن تصدر المحكمة حكمها في الشق الموضوعي قبل الفصل نهائيًا في دعوى جنوب أفريقيا، التي لم تحدد جلسة لإصدار حكمها النهائي بشأنها حتى الآن على الرغم من إصدارها ثلاثة قرارات في التدابير المؤقتة الخاصة بالدعوى، منها قراران ألزما إسرائيل باتخاذ إجراءات عاجلة لوقف العدوان الغاشم وإزهاق الأرواح والتنكيل الجماعي والتهجير القسري والسماح بدخول المساعدات.
كيف درست المحكمة دعوى نيكاراجوا؟
يتطاب هذا الغموض لتفكيكه قراءة متأنية في ظروف الدعوى وأهدافها وأركان دراسة المحكمة لها، كما تبيّن من قرارها الصادر في طلب التدابير المؤقتة، حيث يتبيّن أن نيكاراجوا قد أقامت الدعوى باعتبارها من الدول الموقعة على مختلف المعاهدات الدولية لمكافحة جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
وقد ارتأت أنّ ألمانيا –الموقعة على المعاهدات والمصدقة عليها نفسها- انتهكت وما زالت تنتهك التزاماتها بموجب تلك المعاهدات من خلال تقديم المساعدات والمعدات العسكرية لإسرائيل وسحب تمويلها للأونروا وإخلالها الجسيم بقواعد القانون الدولي الإنساني بدعم الممارسات الصهيونية التي تحرم الشعب الفلسطيني من الحياة وحق تقرير المصير وتفرض عليه فصلًا عنصريًا.
تلك هي الاتهامات في الشق الموضوعي من الدعوى، وأضافت نيكاراجوا طلبًا بإضافة الشق العاجل لوقف تمويل إسرائيل واستئناف تمويل الأونروا، باعتبارها تدابير واجبة لوقف تدهور الأوضاع في غزّة.
وأمام هذه الاتهامات المتعلقة بإجراءات وسياسات ألمانية بدأت وما زالت مستمرة لدعم جرائم إسرائيل، أصبح واجبًا على المحكمة في المقام الأول التثبت من علاقة السببية بين ما قامت به ألمانيا والممارسات الإسرائيلية، أي أنّ إسرائيل لما كانت تتمكن من ارتكاب هذه المجازر إلا بدعم ألماني مباشر، سواء في صورة تمويل أو بيع أسلحة أو وقف تمويل الأونروا، وهذا الركن ضروري لإثبات اشتراك ألمانيا في الانتهاكات، وبالدرجة التي تستوجب إلزامها باتخاذ التدابير فورًا لوقف معاناة الشعب الفلسطيني، كما فعلت سابقًا مرتين مع إسرائيل.
الردود الألمانية تُقنع المحكمة.. مؤقتًا
نقلت المحكمة عبء الرد وإثبات سلامة النوايا إلى ألمانيا، التي توجب عليها أن تقدّم أدلة على براءة ساحتها من تمويل جرائم الإبادة الجماعية، فتقدمت بوثائق رسمية تؤكد انخفاض الأسلحة والأدوات العسكرية والأمنية المصدّرة إلى إسرائيل منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023 زاعمةً أنها لم تُصدر إلا أربعة تصاريح بتصدير الأسلحة، منها تصريحان لذخائر تُستخدم فقط في التدريب والثالث لشاحنات وقود والرابع لثلاثة آلاف قذيفة محمولة مضادة للدبابات، وأنها لم تبت في طلبات إسرائيلية لاستيراد أسلحة أخرى منها الغواصات.
وقد اقتنعت المحكمة من المقارنات الرقمية على مستوى عدد التصاريح وطبيعة الأسلحة بين ما قبل العدوان وبعده بأنّ ألمانيا قد اتخذت ما يكفي (الآن) من إجراءات تمنع استخدام أسلحتها في الجرائم ضد الشعب الفلسطيني.
وبالنسبة لتمويل الأونروا؛ فقد ادعت ألمانيا أنها علّقت مساهماتها المباشرة في يناير/كانون الثاني الماضي لكنها سددت في مارس/آذار جزءًا من أموال المبادرة الأوروبية لتمويل الوكالة.
وقد اقتنعت المحكمة في هذا السياق بأنّ ألمانيا لم ترتكب ما يستدعي المساءلة، خاصة وأنّ تمويل الأونروا "عمل طوعي بطبيعته".
وبناءً على ذلك، وجدت المحكمة أنّ الظروف غير مؤاتية -الآن- لفرض تدابير مؤقتة على ألمانيا لوقف بيع الأسلحة لإسرائيل أو استئناف تمويل الأونروا، على ضوء ما يتيسر لها من اطلاع على الملابسات والأحداث الجارية.
جميع مسارات الملاحقة ما زالت مفتوحة
لكن المحكمة لم تتوقف عند هذا الحد، فقد فتحت بحيثيات قرارها الباب أمام تكرار ملاحقة ألمانيا أو غيرها من الدول بتهمة دعم إسرائيل أو أي طرف آخر لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والممارسات اللاإنسانية، فيما يمكن وصفه بالمكاسب الأكيدة للإنسانية والشعب الفلسطيني من دعوى نيكاراجوا.
فقد رفضت المحكمة طلب ألمانيا شطب الدعوى بحجة عدم اختصاصها الأولي بنظرها، وردّت المحكمة على ذلك بأنّ الدعوى "لا يوجد بها خلل واضح في مسألة الاختصاص القضائي" وعلى ضوء ذلك لن تفصل المحكمة في مسألة الاختصاص إلا مع حكمها في الشق الموضوعي، مما يمنح نيكاراجوا وغيرها من الدول فرصة المطالبة بتدابير مؤقتة أخرى ضد ألمانيا –أو غيرها- إذا توافرت معلومات أكثر موثوقيةً وتأكيدًا عن استخدام أموالها وأسلحتها في العدوان على غزّة والجرائم ضد الشعب الفلسطيني.
ثم لم تفوّت المحكمة الفرصة دون أن تذكّر جميع الدول بمسؤولياتها الإلزامية لإنفاذ قرارات المحكمة، وبالأخص القرارين الصادرين سابقًا بإلزام إسرائيل بوقف العدوان والتنكيل الجماعي وإدخال المساعدات، مستعينةً في ذلك بعبارات إنسانية واضحة عن "استشعار القلق العميق إزاء الظروف المعيشية الكارثية للشعب الفلسطيني في غزّة، في ظل الحرمان الممتد واسع النطاق من الغذاء والمرافق الأساسية والمواد الضرورية للمعيشة".
انتصار للشعب الفلسطيني يتوارى خلف العناوين الدعائية
ثم جاءت الإشارة الأكثر أهمية في حيثيات المحكمة إلى ضرورة التزام جميع الدول المصدّقة على اتفاقيات جنيف بالمبادئ العامة للقانون الدولي الإنساني، واستخدام جميع الدول بما تيسّر لها من وسائل متاحة وبالقدر الذي يمكنها لمنع الإبادة الجماعية للشعوب.
وقطعت المحكمة شوطًا إضافيًا، على طريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة"، فصدحت بأنه "من المهم بشكل خاص تذكير جميع الدول بالتزاماتها بشأن بيع الأسلحة ونقلها إلى أطراف النزاعات المسلّحة، وضرورة تجنّب أخطار احتمال استخدام تلك الأسلحة في انتهاك المواثيق والاتفاقيات الدولية".
بل إنّ المحكمة وجّهت لألمانيا ملاحظة خاصة مفادها أنّ الالتزامات سالفة الذكر تقع على عاتقها، باعتبارها دولةً طرفًا في الاتفاقيات الدولية، وذلك فيما يتعلق بإمداداتها العسكرية إلى إسرائيل.
لقد توارت العبارات السابقة خلف عناوين صحفية وبيانات دبلوماسية تعاملت باستخفاف مع دعوى نيكاراجوا، أو اقتصرت على الترحيب والارتياح من قبل ألمانيا أو الاستياء واليأس من قبل بعض المعلّقين، وغاب عن وسائل الإعلام الغربية –ربما عن قصد- تحليلها ووضعها في سياقها السليم، وهو أنّ محكمة العدل الدولية لم تبرّئ ساحة ألمانيا، بل وجهت لها ولأمثالها من داعمي الكيان الصهيوني تحذيرًا قانونيًا جديدًا، وفتحت مسارا للدول الحرّة المساندة للشعب الفلسطيني يمكّنها من مراقبة مدى التزام داعمي الكيان بالمبادئ الإنسانية والقانونية وملاحقتهم على مبيعات الأسلحة والتمويل غير المشروع.
والأهم أنّ محكمة العدل الدولية برهنت على استطاعتها وضع الدول الكبرى أمام مسؤولياتها، على الرغم من افتقارها إلى وسائل التنفيذ والإلزام الجبرية، وسط حالة غير مسبوقة من تداعي المنظومة الدولية وأجهزة الأمم المتحدة، وعجزها التام عن حماية الشعوب المستضعَفة بسبب الفيتو الأمريكي.
(خاص "عروبة 22")