وفي 27 يونيو 1909، عقد أعيان قبائل الريف في أقصى شمال المغرب، تجمّعًا للنظر في تهديدات الإسبان للريف ومحاولة الاستيلاء على ثرواته المعدنية، وأقسموا على المصحف في محراب أحد المساجد على مقاومة الإسبان، وبايعوا "امْحمًد أًمزيان زعيمًا للمقاومة"، (محمد سعدي)، وفي ظرف وجيز حققت مقاومة 'أمزيان' بإمكانات تقليدية ومحدودة انتصارات كبيرة، واعْتُبرت معركة 'خَنْدَق الذيبْ' (إِغْزارْ أُوشًنْ) من أقوى الهزائم التي مُني بها الجيش الإسباني وآلته الحربية الحديثة حتى سماها الرأي العام الإسباني بالكارثة (El desastre del barranco de lobo).
استطاع محمد بن عبد الكريم الخطابي إلحاق هزائم متواترة بالجيش الإسباني الجبّار المدجج بأعتى الأسلحة
سنوات قليلة بعد استشهاد امْحَمد أمزيان، وفي الوقت الذي اعتقدت فيه السلطات الإسبانية أنها نجحت في كسر شوكة المقاومة وإنهاء أسطورتها، بدأت فصول مقاومة ريفية جديدة بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي ابن منطقة "آيت ورياغل" في الجهة الشرقية لجبال الريف، الذي سبق له أن تعلّم بالمدارس الإسبانية، واشتغل قاضيًا ضمن منطقة النفوذ الإسباني بالمغرب، ولكن سرعان ما انقلب ضدهم، بعد تزايد النفوذ الإسباني في منطقة الريف، وثانيًا جراء سجنه مدة سنة تقريبًا بإيعاز من السلطات الفرنسية، إثر اتهامه بالتعاطف مع ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى.
خلال هذه الفترة استطاع بن عبد الكريم الخطابي حشد قبائل الريف لحمل السلاح في وجه المستعمر، حيث تراوح عدد المقاومين في جيشه، حسب بعض الدراسات التاريخية، بين 1500-4000 مقاوم. وبالرغم من هذا العدد المحدود من المقاومين وبأسلحة تقليدية وعتاد بسيط، ومع انتهاج أسلوب حرب العصابات واستغلال جغرافيا منطقة الريف التي كان يعرفها المقاومون جيدًا، استطاع الخطابي إلحاق هزائم متواترة بالجيش الإسباني الجبّار، كبير العدد والمدجج بأعتى وأحدث الأسلحة، وعلى رأسه أحد أقوى جنرالات إسبانيا في زمانه (مانويل فيرنانديز سيلفيستر - Manuel Miguel Fernández Silvestre)، الذي ردّد في السابق وبدون كلل أسطوانة قدرته على غزو منطقة الريف بـ500 جندي فقط.
وبعد عدة انتصارات (إدْهارْ أوبْرانْ، سيدي إبراهيم، إغْريبَنْ..)، حققت المقاومة بالريف تحت قيادة عبد الكريم الخطابي انتصارًا تاريخيًا أعاد للأذهان صورة الجيوش الإسلامية التي لا تُقهر (صلاح الدين الأيوبي، طارق بن زياد..)، وعُرف تاريخيًا بـ"معركة أنوال"، في مواجهة تاريخية غير متكافئة بين عدد محدود من المقاومين بأسلحة تقليدية بسيطة، مقابل جيش جرار حديث تجاوز مقاتلوه الـ20 ألف جندي، بحيث يذكر عبد الكريم الخطابي في مذكراته إنجازات أنوال: "ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77، وأكثر من 20 ألف بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموينًا كثيرًا يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم، وبالجملة، بين عشية وضحاها، وبكل ما كان يعوزنا لنجهّز جيشًا ونَشُنّ حربًا كبيرة، وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح".
"معركة أنوال" البطولية ترسّخت في الذاكرة الجمعية للمغاربة
شكلت هذه الهزيمة كارثة وطنية بالنسبة للرأي العام الإسباني، تسببت في اضطرابات خطيرة، ترتب عنها سقوط الحكومة الإسبانية، كما اعتُبرت السبب المباشر في انهيار الحكم الملكي أمام ضغط الجمهوريين الإسبان.
مع معركة أنوال البطولية والتي ترسّخت في الذاكرة الجمعية للمغاربة، بدأ تاريخ جديد لمنطقة الريف بالمغرب، سيمتد للعقود التالية وستكون له تبعات وإرهاصات كبرى في علاقة المنطقة بالنظام المغربي وبالقضية الأمازيغية، كُتبت آخر فصولها مع اندلاع حراك الريف سنة 2017، وسيكون مقالنا التالي حول المرحلة التالية من ذاكرة المقاومة والاحتجاج بمنطقة الريف في المغرب.
(خاص "عروبة 22")