وجهات نظر

مـواردُ العروبة وكـيف تُسـتـثـمَـر

تَمْتَحُ العروبـةُ، شأنُ أيِّ رابطـةٍ أخرى، موادَّ تكوينها من مواردَ عـدّة؛ بعضُـها ينتمي إلى الماضي ويتّـصل، حضورًا وأثـرًا، بالحاضر وبعضُها الثّاني معاصرٌ تولّـدت معطياتُه من التّحـوّلات الحديثة. والأخيرُ هذا ليس مقصورَ الأثـرِ على تعزيز فكرةِ العروبة في الوعي الجمْعيّ، والإلحاحِ على التّذكير بها والإحالة إليها فحسب، بل يجاوِز ذلك إلى التّأسيس لِمَا من شأنه أن ينقل الفكرة العربيّة من الوجدان والشّعـور والذّاكـرة الجماعيّة إلى حيث تَـقْبَـل التّجلي في شكـل نظامٍ اجتماعـيّ- سياسيّ تتحقّق فيه المطابَـقةُ بين مـادّة العروبـة وصورتها، إنِ استعرنا المفردات الأرسطيّـة؛ أي يتحقّق به الانتـقالُ من العروبة الموروثـة إلى العروبة المَبْـنيّـة. هكذا تسمح المواردُ الحديثة - إنْ أُحْـسِنَ استثمارُها على الوجْـه الأمْـثـل - بتيسير الانتقال من نظامٍ للعروبة بالقـوّة إلى نظامٍ للعروبة بالفعل... بلغة أرسطو.

مـواردُ العروبة وكـيف تُسـتـثـمَـر

المواردُ الأولى موارد تاريخيّـة منحدرة من أزمنـةٍ قديمة؛ وهي من طبيعةٍ حضاريّـةٍ وثقافيّـة ولسانيّة وأنثـروپـولوجيّـة ودينيّـة، وهي كما فعلت فعْـلَها في الماضي فَوَلّـَدَتْ تلك الرّابطـةَ الجمْعيّـةَ التي نُطلق عليها العروبة، كذلك ما تزال مفعوليّـتُها ساريـةً في الزّمن المعاصر على الرّغـم من انفجار هويّات أقواميّـة، داخل الأمّة، في العقود الماضيات: بعد مئات الأعـوام من انصهارها في فضاء العروبة؛ هذا الذي لم يكن يومًا قائمًا على روابـط الدّم والعِـرْق.

الموارد لا تكـفي أمّـةً كي تُحقّقَ وحدتها إنْ لم تتوسّـل مشروعًا لتحقيق تلك البغية

من نافلة القـول إنّها موارد في غاية الغنـى والخصوبة، ولكنّها - على غـناها - تظلّ محضَ موادَّ أوّليّة (خامات) قابلة للتّصنيع أو للهـدْر تبعًا لوجودِ، أو لغيابِ، مشروعٍ يتعهّـدها بالرّعايـة والاستـثمار. ولقد تكون هذه الموارد من الغنى والرّسوخ والعَـراقة بحيث لا تضارعها موارد أخرى لدى أممٍ أصابت حظًّا عظيمًا من النّجاح في مضمار بناء وحدتها وإقامة كيانها الجامع: مثل ألمانيا وفرنسا وروسيا وتركيا وسواها. وهذا دليلٌ من التّاريخ الحديث على أنّ هذه الموارد لا تكـفي أمّـةً كي تُحقّقَ وحدتها إنْ لم تتوسّـل مشروعًا لتحقيق تلك البغية. ومن البيّن أنّ مشروعًا من هذا الضّرب يمتنع على كـلِّ أمّـةٍ لا تُـفْـلِح في تجديـد مواردها الموروثة، من طريق اجتراحِ مـواردَ أخرى حديثـة.

يتولّـد من تعظيم المصلحة العربيّة المشتركة جزيل العوائد على العرب جميعًا

الموارد الحديثة هذه من طبيـعتـيْـن: ماديّـة ولا ماديّة؛ قوام الماديّـة منها - في حالتـنا - خبرةُ التّفاعـلات الاجتماعيّـة- الاقتصاديّـة بين الجماعات الوطنيّـة التي تـنتـظمها رابطـةُ العروبـة؛ ذلك أنّ نسيجها العلائـقيّ يتمـتّن أكثر كلّما ارتفع معـدّلُ تفاعلاتها الماديّـة والمؤسّسيّـة، وليس يخْفى أنّ اتّفاقـاتٍ بيـنيّـةً عـدّة، بين الدّول العربيّـة، وأطرًا مؤسّسيّـة جامعة (شاملة وفرعيّـة) مثل "جامعة الدّول العربيّـة" و"مجلس التّـعاون" الخليجـيّ و "اتّـحاد العرب العربيّ" (سابقًا) وفّـرت فضاءً لتلك التّفاعلات الماديّـة - على الرّغـم من كـلِّ ما بَـدَا عليها من وهْـنٍ وقُصورٍ وتردُّد - وفرصةً لتمرينٍ جماعيّ أو إقليميّ على فكـرة المصلحة العربيّة المشتركة وما يتولّـد من تعظيمها من جزيل العوائد على العرب جميعًا. أمّا الموارد التي من طبيعةٍ لا ماديّـة فيشار بها إلى مجموع الإنتاج الفكريّ العربيّ الذي دار على مسائل العروبة، والأمّـة، والوحـدة، وسبُـل تحقـيقها، وأشكالها الدّستوريّـة والمؤسّسيّـة.. إلخ؛ وهو الإنتاج الذي يدخل في تكوين مادّةِ رؤيـةٍ استراتيجيّة في الموضوع.

أيُّ مشروعٍ مستـقبليّ يَـتَـغَيّـا الانتقال بالعروبـة إلى نظامٍ اجتماعيّ- سياسيّ سيكون مدعـوًّا، حُـكْمًا، إلى أن يَـضْرِب بيده إلى هذه الموارد الحديثة ناظـرًا فيها وفي مكتسباتها - كما في ما اعْـتَورها من هَـنـَاتٍ وأعـطاب - في أفـق البناء عليها واستثمار ما لم يُستـثمر منها في مشروعٍ جامـعٍ متكامـل يفتح به العرب طريقهم نحـو الوحـدة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن