من ذلك على سبيل المثال ما صدر عن المطرب الأمازيغي فرحات مهنى أمام مبنى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك يوم ٢٠ أبريل/نيسان الفائت، عندما وقف ليعلن من مكانه قيام ما سماه "قيام دولة القبائل" في شرق الجزائر.
وما إن صدر هذا الإعلان عن مهنى حتى كانت "جبهة التحرير الوطني"، التي توصف بأنها صاحبة أعلى تمثيل في البرلمان الجزائري، قد سارعت برفض الإعلان شكلًا ومضمونًا، كما أنّ حركة "مجتمع السلم" الإسلامية سارعت أيضًا إلى رفض مماثل، ووصفت ما جرى بأنه انسلاخ وارتداد خطير وطعنة غادرة لتضحيات الملايين من شهداء الجزائر.
لا شيء يراهن عليه أعداء الوطن العربي إلا أن ينقسم كل بلد فيه وتتفتت وحدته
ولا شك في أنّ صدور الإعلان إياه خارج البلاد، وفي نيويورك بالذات، يحيط الموضوع بألف علامة استفهام، ويضع المطرب الأمازيغي ومعه كل الذين يقفون وراءه في موضع الاتهام أمام كل مواطن في بلد المليون شهيد.
وبالطبع، فإنّ صدوره داخل البلاد لو حدث ما كان سيجعل الأمر يختلف، لأنّ وحدة أرض الجزائر ومعها وحدة أرض كل بلد عربي، لا بد أن تكون أولوية لدى الشعب والحكومة معًا، ولأنه لا شيء يراهن عليه أعداء هذا الوطن العربي الكبير، إلا أن ينقسم كل بلد فيه، وإلا أن تتفتت وحدته، وإلا أن يصبح أبناؤه ألف صف بدلًا من أن يكونوا يدًا واحدة تصد الأخطار وتتصدى لها.
ويبدو أنّ المتربصين بالخريطة العربية لا يزالون يتطلعون إليها من زاوية الرغبة في تمزيقها داخل كل بلد إلى عدد من الخرائط.. ولو أنت تأملت شيئًا مما حصل في ليبيا بعد سقوط القذافي، وفي العراق بعد سقوط صدام حسين، وفي السودان بعد سقوط عمر البشير، وفي اليمن السعيد بعد سقوط علي عبد الله صالح، وفي سوريا في مرحلة ما بعد هبوب رياح ما يُسمى بالربيع العربي، وفي كل قُطر عربي آخر يواجه ما تواجهه هذه الدول الخمس، فسوف يتبيّن لك أنّ وراء ما يجري فيها جميعًا رغبة في العبث بالخريطة.
ليس معنى هذا الكلام أنّ القذافي، والبشير، وصدام، وصالح، كانوا ممن يحافظون على الخريطة ويحفظونها في أيامهم.. فالحقيقة أنّ ما طرأ على بلادهم بعد رحيلهم عن الكرسي أو عن الدنيا، ليس إلا حصيلة لما كان في أيامهم من سياسات مطبقة ومعتمدة على أيديهم، ولو اعتمدوا سياسات مختلفة لكانت الحصيلة غير الحصيلة بكل تأكيد.
ولا سياسة يمكن أن تكون حافظة للخريطة في كل بلد عربي، إلا سياسة تقوم على مبدأ المواطنة ولا تقوم على شيء سواه.
ولا معنى لمبدأ المواطنة إلا أن يكون الكردي في العراق على سبيل المثال، كالسني، كالشيعي، ككل مؤمن بأي مذهب أو تيار آخر، وسواء كان هذا المذهب سياسيًا أو دينيًا أو غير ذلك، فعراقية كل حامل للجنسية العراقية لا بديل عن أن تكون هي الأعلى وهي السقف الذي يظلل الجميع.
ولو كان شيء من هذا حاصلًا، ما كنا سنسمع ونرى في بلاد الرافدين أنّ رئيس الجمهورية من الأكراد، وأنّ رئيس البرلمان من السُنة، وأنّ رئيس الحكومة من الشيعة.. هذا لا يجوز ويجب أن لا يكون، لأنّ عراقية كل شخص هي التي لا بد أن تكون متقدمة على غيرها، وأن تكون السماء التي تظلل الجميع، وأن تكون المظلة الحامية لكل مواطن.
معيار الكفاءة الفردية لا بد أن يظل هو الحاكم والفيصل بين كافة المواطنين
مبدأ المواطنة مبدأ ساحر في حد ذاته، ولكنه مبدأ لا يطبّق نفسه بنفسه، ولا هو مبدأ نظري يُقال أمام الناس في الإعلام، ثم لا يكون له تجلياته العملية في الحياه العامة.. هو مبدأ لا قيمة له إذا بقي في خانة الكلام ولو بقينا نتكلم عنه ألف سنة، وهو مبدأ له كل القيمة إذا آمنا به كما يتعيّن، وإذا أخذناه بالجدية المطلوبة.
جوهر المواطنة ألا يشعر أي مواطن بأنه مختلف عن مواطن آخر لسبب يتعلق بالدين، أو باللون، أو بالمعتقد السياسي، أو بالمعتقد غير السياسي، أو بغير ذلك كله، لا لشيء، إلا لأنّ معيار الكفاءة الفردية لا بد أن يظل هو الحاكم وهو الفيصل بين كافة المواطنين.
في غياب هذا المبدأ، وفي غياب معناه، وفي غياب أثره الفاعل في حياة الناس، تتسع الساحة للكثير الذي يشد البلد، أي بلد، إلى الوراء ويقيّد حركته ويعطّله، ويُفرّغ كل جهد فيه من مضمونه ومن محتواه.
(خاص "عروبة 22")