تقدير موقف

"الرؤية العربية 2045": طموحٌ في عالم مضطرب (2/3)

لا زلنا مع مضامين وثيقة "الرؤية العربية 2045" التي صدرت عن الأمم المتحدة سنة 2023. وبعد أن تطرّقنا في مقالة سابقة إلى تعامل الوثيقة مع الاتجاهات الخمسة الكبرى التي حدّدتها الأمم المتحدة في سنة 2020، أي التغيّرات المناخية والتحوّلات الديموغرافية (بالأساس شيخوخة السكان)، والتوسّع الحضري، وظهور التكنولوجيات الرقمية وانتشارها وعدم المساواة، نتطرق إلى تعاملها مع قضايا موازية.

انتصار الوثيقة للقراءة الاستشرافية أمرٌ يثير الانتباه، أخذًا بعين الاعتبار تواضع الدراسات والوثائق العربية التي تنهل من هذا الأفق البحثي، بخلاف السائد في مجالات إقليمية في محيط المنطقة العربية، أقلّها المجال الأوروبي.

يُعتبر العدل والعدالة بمثابة الركن الثاني في الرؤية العربية لسنة 2045، "لأنّه يتقاطع مع بقية المحاور، وهو شرطٌ أساس لتحقيق كل منها. فلا يمكن أن يسود الأمن وأن نتطلع إلى الازدهار والابتكار والتنمية والتقدم في ظل الظلم والتفاوت غير المشروع وغير المبرّر، وانتقاص حق الأشخاص في التمتع بحقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية" حسب مضامين الوثيقة نفسها.

العدالة القضائية تقتضي تحديث القضاء والعمل على "رقمنته" والتحوّل نحو اقتصاد المعرفة يُحتّم الاستثمار في الابتكار

لهذه الاعتبارات أكدت الوثيقة أيضًا على العدالة الاجتماعية والاقتصادية، من أجل الاستثمار في الإنسان وللإنسان؛ وإطلاق عهد جديد من الحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية والتعليم وتمكين المواطن العربي من امتلاك المهارات الضرورية لكسب العيش الكريم، والتمتع بسكن لائق وتنمية حضرية مستدامة. كما ركّزت على أهمية توفير ربط شامل بالإنترنت لكافة الناس وحماية البنية واستدامتها لصالح الأجيال القادمة. وأشارت الوثيقة كذلك إلى العدالة القضائية والعناية بمرفق القضاء؛ ويقتضي ذلك تحديث مرفق القضاء والعمل على "رقمنته"، وتحسين أدائه وتكريس مبدأ المساواة أمام القضاء؛ والتقليل من تكلفة التفاني.

ومن المبادرات التي جاءت بها الوثيقة في مجال العدل والعدالة؛ مراجعة منظومات التعليم والصحة والسكن اللائق والعمل، وإنشاء صناديق هيكلية واستثمارية لدعم المشاريع المرتبطة بالتعليم والتوظيف والإدماج الاجتماعي والتنمية المستدامة، واعتماد خطة للتدريب الأساسي والمهني بما يتلاءم مع المعايير الدولية، ثم تطوير النُظُم القضائية، وتعزيز ودعم برامج التعاون بين وزارات العدل العربية، وبناء شراكات وبرامج تعاون لتدريب القضاة.

لا شكّ أنّنا إزاء مبادرات مهمة، للنهوض بمرفق القضاء في العالم العربي، وإرساء عدالة اجتماعية تحفظ للإنسان العربي كرامته، لكن كل ذلك يحتاج الى فعالية في التطبيق ونجاعة في التنزيل.

اقترحت الوثيقة عدة مبادرات من ضمنها تمويل برامج التعليم الرابع والاستثمار في دعم المنصات التعليمية الافتراضية

يُعدّ الابتكار والإبداع بمثابة الركن الثالث في الرؤية العربية 2045، ذلك أنّ التحوّل نحو اقتصاد المعرفة يُحتّم على الدول العربية، الاستثمار في الابتكار والابداع، لأنّ ذلك هو أساسُ التميّز ومواجهة المنافسة العالمية. ومن سُبل وآليات تكريس الابتكار والابداع، التحوّل إلى عصر التعليم الرابع (التعليم 4. 0)، واعتماد حقول "العلوم التكنولوجية والهندسية والفنون والرياضيات" (STEAM)، وتنمية التفكير النقدي والذكاء الاجتماعي والعاطفي؛ "وتصميم ومتابعة والابداع كالرقمنة وحماية البيانات عبر مختلف الصناعات والكيانات الحكومية"، وعمومًا اعتماد سياسات عمومية متناسقة، تعزّز ثقافة الإبداع والابتكار، وتوفير بيئة محفزة للابتكار وتطوير البنى التحتية لذلك.

ولذلك اقترحت الوثيقة عدة مبادرات، ومن ضمنها تمويل برامج التعليم الرابع واعتماد الذكاء الاصطناعي في التعليم، والاستثمار في دعم الدورات الإلكترونية المفتوحة (MOOC’S) والتعلّم الهجين؛ والتعلّم الافتراضي المُجَسّم (الهولوغرام) والمختبر السيبراني المادي والمنصات التعليمية الافتراضية وغير ذلك من التقنيات الحديثة، واعتماد سياسات تشجيع الشركات الناشئة واحتضانها، وتشجيع المواهب، و"إنشاء وحدة رؤى عربية موحدة مع وحدات رؤى في كل دولة عربية وتشجّع، مثلًا، على استخدام الاقتصاد السلوكي وعلم النفس "لدفع" الناس بلطف نحو خيارات أفضل".

استحداث آليات سداد الديون السيادية ومنها المقايضة وإطلاق عُمْلة رقمية عربية موحّدة تصدر عن البنوك المركزية

ويُعتبر الازدهار والتنمية المستدامة، ركنًا رابعًا، بحيث تدعم الأسكوا والجامعة العربية، الخطط العربية حول التحوّل الرقمي والعلوم والتكنولوجيا والمياه والطاقة، وكذلك النقل المتكامل.

ومن المبادرات المقترحة في هذا المجال، استحداث آليات سداد الديون السيادية ومنها المقايضة، وإطلاق عُمْلة رقمية عربية موحّدة تصدر عن البنوك المركزية، إضافة إلى تنفيذ مشاريع الربط السككي العربي، وإنشاء سوق رأسمالية عربية للأسهم العادية والممتازة وللصكوك والسندات والسلع والمشتقات المالية. وكذلك التفكير في ربط الدول العربية من خلال ممر اقتصادي يدعم النقل النهري والبري والجوي، وتطوير سياحة عربية، وإنشاء هيئة عربية لربط البنية التحتية المائية والكهربائية واللوجستية والمعلوماتية والطاقة؛ وكذلك إنشاء منصات وتكتلات تعاونية تشجع الأعمال اليدوية والحرف التقليدية. 


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن