ترتبط هذه الرؤية العربية، بالإطار المرجعي للأمم المتحدة، المتشكّل من المواثيق الدولية والعربية وخطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030؛ بحيث تتوخّى "الرؤية العربية لسنة 2045"، تنفيذ وإتمام مقتضيات هذه الخطة الأممية للتنمية المستدامة. كما تسترشد الوثيقة نفسها، بمختلف الخطط الوطنية العربية للتنمية والخبرات التي حققتها بعض الدول العربية في المجال وكذلك الاستفادة من تجارب دول أخرى في العالم.
ضرورة التكتل لمواجهة التحديات المستقبلية التي لا ينفع معها العمل القُطري المنفرد
وتتأسّس "الرؤية العربية"، على مبدأ الإيمان "بمزايا التضامن العربي"، وأنّ هناك أملًا في تحقيق الازدهار العربي، وضرورة التكتل لمواجهة التحديات المستقبلية التي لا ينفع معها العمل القُطري المنفرد. و"استشرافًا للمناخ السياسي الإيجابي السائد في المنطقة وقت إصدار هذه الوثيقة، تطرح الرؤية اقتراحات متعدّدة لمشاريع استراتيجية، وتوصيات لتفعيل العمل العربي المشترك، بأساليب واستراتيجيات عمل مبتكَرة تعزّز التعاون العربي، وتحقّق أغراضها وأهداف التنمية المستدامة. ووضع برنامج للثقافة والإبداع، وإنشاء مصرف إقليمي للأمن المائي والغذائي، وربط شبكات الإنترنت والسكك الحديدة والطرق، وغيرها من المشاريع الاستراتيجية". (الرؤية العربية 2045، الأمم المتحدة).
ولا شك أنّ هذه الوثيقة، قد جاءت في سياق عربي يتميّز، بمواجهة الشعوب العربية، لظروف شديدة التعقيد ومنذرة بتفاقم الوضع العربي واستفحال المعاناة من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهشاشة بعض الدول العربية، وكذلك النزاعات والإجهاد المائي والتغيّرات المناخية وتقلّب أسعار المواد الغذائية والتطرّف والإرهاب، والتضليل الإعلامي ومجموعة من التهديدات الهجينة، كما هو مشارٌ إليه في "مؤشّر نورماندي للسلم"، لسنة 2023. هذا إضافة إلى استمرار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، واحتمال دخول الشرق الأوسط بكامله في حرب شاملة ومدمّرة.
لهذه الاعتبارات وغيرها، فإنّ وثيقة "الرؤية العربية 2045"، تبقى مبادرة مهمّة، لكن تنفيذها لن يكون سهلًا، لأنّ هناك عدّة عقبات ومن أهمّها النزاع العربي ــ العربي؛ والتجاذب الجيوسياسي، وتكالب القوى الدولية على المنطقة، والسعي إلى تفتيتها والاستفادة من التفرقة العربية والفوضى السائدة في بعض البلدان العربية.
وبالرغم من ذلك، فإنّ "الرؤية العربية 2045"، تتضمّن رؤية ذات أهمية وتتكوّن من ستة أركان مترابطة وهي: الأمن والأمان، العدل والعدالة، الابتكار والإبداع، الازدهار والتنمية المستدامة، التنوّع والحيوية، التجدّد الثقافي والحضاري.
تجسّد هذه الأركان الهواجس العربية الراهنة والمستقبلية، إذ تتوخّى الوثيقة التخطيط لمعالجة قضايا هذه الأركان الستة، لبناء مستقبلٍ أفضل، أو على الأقل تفادي جزء مهم من الآفات المستقبلية، التي تستدعي يقظًة استراتيجيًة واستشرافيًة ووعي بالمستقبل بروح مشبّعة بالأمل والواقعية والرغبة الصادقة في تحقيق وثبة حضارية للشعوب العربية. ولذلك "يعتمد نجاح هذه الرؤية على التعاون بين جميع أصحاب المصلحة، من حكومات ومجتمع مدني وقطاع خاص، وعلى العمل على تنفيذها. ونأمل أن يتحقق التوافق على مشروع الرؤية من أجل ترسيخ التكامل الإقليمي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي تحقيقًا لتطلّعات الشعوب والدول في المنطقة العربية" (الرؤية العربية 2045).
تصوّر متكامل يجمع بين منطلقات الرؤى الوطنية وطموح الرؤية الإقليمية العربية
ينطلق فريق صياغة الوثيقة من وعي بالاتجاهات الخمسة الكبرى التي حدّدتها الأمم المتحدة في سنة 2020؛ العالمية، الراهنة والمستقبلية؛ أي التغيّرات المناخية والتحوّلات الديموغرافية (بالأساس شيخوخة السكان)، والتوسّع الحضري، وظهور التكنولوجيات الرقمية وانتشارها وعدم المساواة. كما يسعى فريق العمل، إلى تقديم تصوّر متكامل، يجمع بين منطلقات الرؤى الوطنية وطموح الرؤية الإقليمية العربية؛ ولذلك تمّ اعتماد مقاربة تشاركية، حيث ساهمت مجموعة من الخبراء العرب والشباب والمهنيين والنساء ومُمثّلي الهيئات الشعبية والبرلمانية والنقابية ومكوّنات المجتمع المدني العربي، في جَرد وتصنيف وترتيب مختلف الهواجس والتطلّعات وبالتالي إثراء الوثيقة بمقترحات نابعة من المعاناة اليومية وكذلك الوعي الاستراتيجي بالرهانات الحالية والتحديات المستقبلية.
لقد انبثق عن هذا التشاور الموسّع، تحديد الأركان الستة، (الرؤية العربية 2045). وتصدّرت مسألة الأمن والأمان، هذه الأركان، لأهمية الأمن والذي بدونه يصعب إنجاز وتنفيذ مخططات التنمية.
يُعتبر الأمن والأمان من أولويات "الرؤية العربية 2045"، حيث جاءا في بداية جَرد وتحليل أركان هذه الرؤية، وبالفعل فإنّ جزءًا من المنطقة العربية يعاني من انعدام الأمن والأمان (ليبيا، اليمن، سوريا، العراق، فلسطين، لبنان، الصومال، السودان)، وهناك جزء آخر يواجه تهديدات ومخاطر داخلية وخارجية؛ أو محيطها الذي يعاني من هشاشة استراتيجية كفيلة بنسف مقوّمات الأمن والولوج إلى فوضى جيوسياسية أو حرب إقليمية مدمّرة، ومن ذلك الخطر الإيراني والإسرائيلي والطموح الإثيوبي في التمدّد، والتكالب الدولي على منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وعسكرتها. ولذلك "يتطلّب لاحتساب الأمن على مستوى المنطقة تفعيل جميع السبُل الرسمية وغير الرسمية لتسوية النزاعات بالطرق السلمية بما فيما دور الجامعة الدول العربية، والتركيز على مسببات نشوب الحروب والخلافات الاهلية والإقليمية والخارجية ومعالجتها من جذورها". (الرؤية العربية 2045).
مبادرات مهمّة في مجال الأمن والأمان تحتاج إلى إرادة عربية موحّدة لتطبيقها وتفادي جميع العراقيل
تقترح الوثيقة أيضًا مجموعة من السبُل والآليات لتحقيق الأمن والأمان؛ وهي: الأمن الجيواستراتيجي والأمن المائي والغذائي والأمن البيئي وأمن موارد الطاقة والأمن المعلوماتي وأمن الفضاء السيراني.
ومن المبادرات المهمة التي اقتُرحت في مجال الأمن والأمان، تفعيل منظومة إنذار مبكر في الجامعة العربية لرصد بوادر النزاعات المحتملة وكذلك إنشاء هيئة استشارية لتسوية الخلافات؛ ثم إنشاء مصرف عربي لتمويل مشاريع تحقيق الأمن المائي والغذائي وتطوير نظام مبكر لتحديد المناطق المهدّدة بالتغيّرات المناخية.
كما اقترحت إنشاء هيئة عربية تُشرف على الأمن السيبراني وإنشاء سوق عربية لتداول أرصدة انبعاثات الكربون ومشتقاتها وإنشاء شبكة كهرباء عربية وتطوير سوق عربية موحّدة للطاقة وتطوير موارد الطاقة المتجدّدة وتأسيس آلية عربية لتكريس كفاءة الطاقة والاستجابة الفعالة للطوارئ، وتنفيذ اتفاقات تجارة الطاقة مع الدول المجاورة للدول العربية. وهي مبادرات مهمّة في مجال الأمن والأمان وتحتاج إلى إرادة عربية موحّدة لتطبيقها بحزم وإصرار والسهر على تفادي جميع العراقيل التي من شأنها إعاقة التنفيذ الفعال لها.
(خاص "عروبة 22")