بصمات

بناء العقل.. والوصل بين العلوم الأدبية والتطبيقية

عندما نستوقف أنفسَنا اليومَ لنعيدَ التعرُّفَ إلى دور مؤسَّسةٍ تعليميةٍ جامعية في المجتمع الذي نحن فيه، فإننا بذلك نثيرُ نَوازِعَ الشكِّ وإمكانات التحليل والفَهم لفاعليَّة هذا الصرح التربوي الثقافي العلمي ومدى تأثيره في الحياة العملية، بل مدى ارتباط وجوده بوجود الإنسان المُنتِج المُبدِع المشارك في ثقافة الابتكار.

بناء العقل.. والوصل بين العلوم الأدبية والتطبيقية

هل يمكنُ العيش بلا العلوم الإنسانية؟ هل لهذه العلوم علاقة بعلوم العصر الرقمي التي تشغل أذهان الناس والشباب منهم خاصةً، بلغةٍ استحوذت على البنية التعبيرية العفوية للتحدث اليومي؟ هل الانشغال بالقضايا الفكرية الكبرى لا يزال فاعلًا في ذهنية الانتماء العصري إلى الثقافة الراهنة؟ هل هناك وقتٌ لتعلُّم الآداب؟ هل يمكن لطلاب الآداب الدخول إلى سوق العمل؟ هل لا زالت رصانةُ التفلسفِ قدرةً لا بد منها لصناعة العلم ما بعد الروبوتات والذكاء الاصطناعي؟.

يقول إدغار موران إنّ الأمر لا يتعلّق "بإصلاح برامجي بل بإصلاح برادغماتي أو مقاربي يتصل بقدرتنا على تنظيم المعرفة... فإصلاح التعليم يجب أن يقود إلى إصلاح التفكير، وإصلاح التفكير يجب أن يقود إلى إصلاح التعليم" (إدغار موران، العقل المحكم إعادة التفكير في الإصلاح وإصلاح التفكير، ترجمة المنصف ونَّاس، مراجعة فرج معتوق، معهد تونس للترجمة، تونس، 2020، ص 20-21).

إذًا هناك أمرٌ أساسي يتطلَّب التغيير والتثوير، ألا وهو براديغمات التعلُّم، أي هذه النماذج المعيارية المعيشة التي تستوجب من المادة العلمية أن تحاكيها في الدرس والبحث والتنقيب، بحيث إنّ الانتماء إلى التعليم الجامعي، ونخصُّ هنا كلية الآداب مثلًا، تكون وظيفتُه فَتْح المسارات أمام الطالب للتفاعل مع مشهدية العيش في أوانه.

ينقصنا الانتماء إلى العِلم القادر على إثبات الحق كونيًا ليكون خطابنا قادرًا على الوصول إلى كل الناس

إنّ أهمّ وظيفةٍ للعلم هي إنجازُ انتماء الفرد إلى وجودِه الحيِّ. والفهم، في هذا المقام، يؤدي إلى التجاوز للمكوث الاستهلاكي المقيت، بابتكار وسائل تمكين جديدة للإنسان في هذا العالم. من هنا نرى أنّ وظيفة كلية الآداب لا تنفصل عن وظيفة أيٍّ من الكليات التطبيقية في تحقيق العقل الفاعل في المجتمع، أو ما سماه إدغار موران العقل المُحكَم و"إن العقل المحكّم البناء هو عقل مؤهل لتنظيم المعارف ومن ثم تجنب مراكمتها بشكل عقيم". فلو انتبهنا إلى هذه المسألة المهمّة في عملية بناء العقل، ألا وهي عدم مراكمة المعارف، بل الحرص على تنظيمها، بإعادة تشكيلها وفهم وضعيتها الراهنة، لتمكَّنا من بناء حلقة الوصل بين العلوم الأدبية والعلوم التطبيقية. هذا الربط يتمُّ بابتداء الدرس في كلية الآداب من مستوى انشغالات الطالب الفكرية واهتماماته، وبالتالي من قدرة الأستاذ على إشراك الطلاب في صناعة المعلومة بإعمال النقد الحر، فلا ينتهي الدرس لأي قضية إشكالية إلا بإحالتها إلى مسألةٍ يومية في ذهن الطالب، فيدرِكَ أنه كائنٌ يتكوَّنُ بعلمه، وإلا سيبقى هامشيًّا.

الدرس يبدأ من خارج الكتُب، ليمرَّ خلال المحاضرات إلى أسئلةٍ جديدة في أذهان الطلبة، لذا لا يمكن لأي علمٍ أن يمارس الانغلاق على ذاته بمفاهيم ثابتة وأجوبة جاهزة. لا يمكنُ للمعارف أن تسلَّم باليد من الأستاذ إلى الطالب، بمجموعةٍ من الأوراق المبتورة عن واقع الحال.

العلم هو إعادة إكساب الأشياء دلالات جديدة، لذا إنّ وظيفة كلية الآداب هي أن تُفسح المجال أمام الطالب ليفهم دورَه الثورِيَّ في أن يصبح كائنًا ناقدًا، له خصوصيةٌ في تعريف ذاته بحسب فهمه للأشياء وتعريف الأشياء بحسب فهمه لذاته. من هنا نقدر أن نبني شخصية لها تطلعات وآمال في الانتماء الكوني الفاعل. يقول موران: "فمن أجل التفكير محليًا، لا بد أيضًا من التفكير شموليًا".

إنّ استيعابًا حقيقيًّا للذات في موضعها هو الذي يؤدي بها إلى وعي أخلاقية وجودها الكوني. ولو فكَّرنا في أنفسنا نحن العرب، مَن نحن وما معنى أن نكون عربًا اليوم؟، لفهمنا كيف نجعل العلوم الإنسانية التي ننتجها تفصح عن هذه الحاجة لاشتراكنا في صناعة القيم الكونية. فما يجري من حوادث وحروبٍ في بلادنا يشغل العالم شرقًا وغربًا، بتأييد الحق الفلسطيني أو برفضه... كلٌّ يستند إلى اعتباراته الحرة في فهم الحق. وليس غريبًا أن يحاسب طلاب العلوم السياسية الإدارة السياسية الفرنسية، ولا طلاب الجامعات الأميركية الإدارة الأميركية. وقد شاهدنا من بين المعتقلين نويل مكافي رئيسة قسم الفلسفة في جامعة إيموري. هؤلاء كلهم يضعون ما يدرسون في مختبر الحدث، استنادًا إلى جرأتهم العلمية الحرّة.

التحوُّل النوعي في العلاقة بين الجامعة والسوق سيولِّد فهمًا جديدًا لوظيفة الآداب في المجتمع

تُرى، ماذا ينقصنا اليوم في غزّة حتى يكون الحق معنا؟! إنّ الانتماء إلى العِلم القادر على إثبات الحق كونيًا هو الذي ينقصنا ليكون خطابنا قادرًا على الوصول إلى كل الناس. هذا النقص يتطلب اجتهادًا في تغيير مضامين الدروس وربطها ببيئتها الثقافية والفكرية المعيشة.

الأدب يبدأ من الاقتصاد والسوق والمشاكل الاجتماعية والعقد السيكولوجية والاستعصاء السياسي ومن استشكالات الدين والطائفية والتاريخ ...إلخ. يقول موران: "إنّ تنمية القدرة على الإدراج في السياق تنحو إلى إنتاج عملية ظهور لفكر ’بيئوي‘، بمعنى أنها تضع كل حدث أو معلومة أو معرفة في علاقة لا انفكاك فيها مع المحيط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبطبيعة الحال، المحيط الطبيعي".

من هنا، نرى أنّ العلاقة بين اختصاصات الآداب وسوق العمل لا بد من أن تفرضها كلية الآداب برؤية توجيهية مدروسةٍ ومطبَّقةٍ، ينجزها خبراء اقتصاديون ومعرفيون توضح السبيل إلى الربط بين التخصص الأدبي والمؤسسات وكل مراكز الإنتاج. هذا التحوُّل النوعي في العلاقة بين الجامعة والسوق هو الذي سيولِّد فهمًا جديدًا لوظيفة الآداب في المجتمع. فلا تخلو مؤسسةٌ من رؤية فلسفية نفسية اجتماعية أدبية تدعم عَمَلها ووظيفتها الاقتصادية الإنتاجية، ولا تخلو عمليات الربح لهذه المؤسسات من تخصيص مبالغ مالية لدعم البحث العلمي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن