لم تستطع أن تسجّل انتشارًا جماهيريًا، والدليل على ذلك أنها لم تستطع أن تحصد نجاحات في الانتخابات البرلمانية في أي بلد من البلدان التي تقدمت فيها بمرشحين.
وبالنسبة للأحزاب الشيوعية فإنّ بداية تراجع حضورها بدأ بعد نكبة فلسطين واعتراف الاتحاد السوڤياتي بدولة إسرائيل، وقد ترافق ذلك مع صعود التيار القومي العربي ممثلًا بحزب البعث وحركة القوميين العرب. وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، صعدت زعامة عبد الناصر القومية الجارفة التي لم تتوانَ عن قمع الشيوعيين والأخوان المسلمين. هذان التياران اللذان خسرا الكثير من الحضور السياسي أمام الموجة الناصرية.
مبدأ الحزب الواحد أدى إلى إلغاء الحياة الحزبية والحياة السياسية برمتها
لم يستطع حزب من الأحزاب أن يصل إلى السلطة غير حزب البعث، الذي حكم سوريا والعراق. لكنه لم يستطع أن يحقق ذلك إلا عبر الانقلاب العسكري.. وسلسلة الانقلابات في سوريا الستينات أظهرت أنّ الفريق العسكري قد أقصى الطرف المدني الأمر الذي أدى إلى انشقاق البعث نفسه إلى سوري وعراقي.
لقد لعبت الناصرية دورًا كبيرًا في تحجيم الأحزاب العقائدية من خلال إطلاقها مبدأ الحزب الواحد. بحيث تحتكر الدولة النشاط السياسي، وبمعنى آخر إلغاء السياسة. وخلال سنوات الوحدة السورية - المصرية (1958-1961)، فرض عبد الناصر حلّ الأحزاب في سوريا بما في ذلك حزب البعث. وتم قمع واستئصال للشيوعية في سوريا ومصر بما في ذلك تصفية القائدين الشيوعيين فرج الله الحلو اللبناني في سوريا وشهدي عطية الشافعي في مصر، وإعدام سيد قطب الذي كان من جهته يكفّر الأنظمة ويدعو إلى إسقاطها.
إنّ مبدأ الحزب الواحد الذي عمّ مع السبعينات في سوريا والعراق وليبيا والجزائر أدى إلى إلغاء الحياة الحزبية في تلك البلدان وإلى إلغاء الحياة السياسية برمتها. وقد تحوّل الحزب الواحد إلى واجهة تضم المنتفعين من النظام تمثّل أقلية متسلّطة تحكم من خلال أجهزة الأمن التي تطارد كل تعبير سياسي أو فكري تصنّفه مناهضًا للسلطة القائمة.
في السنوات الأولى لحكم البعث في العراق تم استئصال الحزب الشيوعي. أما في سوريا التي شهدت صراعًا طائفيًا مع الأخوان المسلمين بما في ذلك ارتكاب المجازر في حمص وحلب، فإنّ جبهة الأحزاب الوطنية لم تكن سوى واجهة ترضخ لأجهزة الأمن هدفها إصدار البيانات المؤيدة للنظام القائم.
إنّ تراجع الحياة الحزبية، بالإضافة إلى الأسباب التي تقدّمت، قد حدث أيضًا على الصعيد العالمي، وخصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي وتصدّع الأحزاب الشيوعية في المنظومة الاشتراكية السابقة. وفي أوروبا الغربية تراجع حضور الأحزاب التي شغلت الحياة السياسية بعد الحرب العالمية الثانية كالأحزاب الشيوعية التي كان لها حضور بارز في إيطاليا وفرنسا، والأحزاب الاشتراكية في فرنسا، وإسبانيا، والأحزاب الديمقراطية المسيحية في ألمانيا وإيطاليا، ومع ذلك، لم تنتهِ الحياة السياسية في بلدان أوروبا الغربية. فبرزت تجمعات حزبية تغلب عليها الاتجاهات النيوليبرالية والتكنوقراطية.
غياب الأحزاب ظهر أثره السلبي في ثورات "الربيع العربي"
أما في بلدان العالم العربي، فقد اضمحلّت الأحزاب القديمة التي تشكّلت في الثلاثينات والأربعينات ولم يتبقَ منها سوى الهياكل، وقد تجاوزها الزمن بعد تجاربها المريرة المخفقة. ومع ذلك لم ينشأ الجديد في عصر ما بعد الأيديولوجيا.
إنّ غياب الأحزاب، ظهر أثره السلبي في ثورات "الربيع العربي"، فقد خرج المتظاهرون بمئات الآلاف، واحتلوا المدن والساحات، لكن هذه الثورات كانت بلا قيادات متمرّسة وأحزاب تمثّل برامج واضحة للإصلاح والقيادة واستلام السلطة.
فهل تشهد البلدان العربية مرحلة مقبلة تتبلور فيها برامج حزبية واضحة لممارسة السياسة وقيادة المواطنين؟.
لقراءة الجزء الأول، الجزء الثاني
