بصمات

الأمن الفكري العربي المعاصر: الحقل السياسي نموذجًا

توقفنا في مقالة سابقة عند بعض الأسباب التي نزعم أنّها تفرض علينا الاشتغال الجمعي على الأمن الفكري العربي المعاصر، موازاةً مع الأسباب الوجيهة التي تفسّر اشتغال عدّة أقلام بحثية على "الأمن الغذائي" و"الأمن البيئي" و"الأمن الطاقي" وغيرها، وكان الغرض من تلك الوقفة الأولية، إثارة انتباه المعنيين. ونتوقف في هذه المقالة عند معالم الاشتغال النظري المعاصر لأقلام الساحة على ما يخدم هذا الأمن الفكري العربي المعاصر، وقد فصّلنا في المقالة السالفة أيضًا في المقصود بالأمن الفكري العربي المعاصر بالتحديد.

الأمن الفكري العربي المعاصر: الحقل السياسي نموذجًا

ما أكثر المجالات الحيوية التي تتطلب انخراط الأقلام البحثية العربية في المشروع أعلاه، سواء كانت تهم الحقل السياسي أو الحقل الديني أو الفكري نفسه ضمن مجالات أخرى، لذلك ارتأينا التوقف عند هذه الحقول الثلاثة لأهميتها القصوى في السياق الزمني/الحضاري الراهن، ونبدأ مع الحقل السياسي، قبل العودة لاحقًا إلى الحقلين الديني والفكري.

مجموعة من الأقلام الفكرية والدينية تورطت في الدفاع عن مشاريع تفكيك دول المنطقة

يتطلّب الخوض في تفاعل أهل الفكر العربي مع الحقل السياسي، الأخذ بعين الاعتبار التطورات السياسية التي تمر منها المنطقة منذ أربعة عقود على الأقل، وتحديدًا منذ منعطف 1978، لأنّ تبعات ما جرى حينها، سوف نعاينها في أغلب دول المنطقة، سواء في الحقل الديني أو الحقل السياسي أو الحقل الاجتماعي أو الحقل الاقتصادي، وسوف نؤجل الخوض في تلك التبعات، بقدر ما يهمنا التوقف عند نتائج ما جرى في أحداث 2011، التي توصف عند البعض بـ"الربيع العربي" أو "الفوضى الخلاقة" عند البعض الآخر.

من نتائج تلك الأحداث، تورط مجموعة من الأقلام الفكرية والدينية في الدفاع عن مشاريع تفكيك دول المنطقة، مع أنّ المشهد السياسي الدولاتي العربي لا يحتمل ذلك، يكفي أنّ السودان، في عز 2011، أصبحت اليوم السودان وجنوب السودان، وتكفي الصراعات السياسية الطائفية القائمة أساسًا في عدّة دول، وتكفي المشاريع الإقليمية المنافسة أو المهدّدة للحق العربي المشترك، من قبيل المشاريع التركية والإيرانية والإسرائيلية.

من بين أهم المهام الملقاة على عاتق مفكري المنطقة العربية اليوم، الانتصار لخيار التجميع وليس التقسيم، وعدم التورط في ترويج خطاب الانقسام وشيطنة دول عربية دون سواها.

مؤكد أنّ المفكرين أحرار في ممارسة النقد ضد هذه الدولة أو تلك، في كافة ربوع المحيط العربي، شرط أن يكون نقدًا موضوعيًا أو نزيهًا وليس نقدًا متهافتًا، أو لا يخرج عن منطق تصفية حسابات إيديولوجية، ضمن أسباب أخرى، كما عاينا مباشرة بعد اندلاع أحداث 2011، بل لا زلنا نعاين المعضلة نفسها مع عدّة أسماء فكرية، آخرها كتاب حديث الإصدار لمفكّر سوري.

ولو تأملت هذه الأسماء وغيرها، تبعات ما صدر عنها من مواقف حينها، لما تورطت في ترويج تلك الأحكام السياسية الاختزالية، حتى لو كان ذلك باسم الفكر والدين، وبيان ذلك أنّ سمعتها بعد صدور تلك الأحكام تختلف كثيرًا عن سمعتها قبل صدور الأحكام نفسها، باستثناء سمعتها عند التيارات الدينية الإيديولوجية التي تبنت هذا الخطاب وروّجت له.

لقد انتقلنا من السودان إلى السودان وجنوب السودان في عز 2011، وسنوات قليلة بعد السنة نفسها، انتقلنا إلى ليبيا شبه مقسّمة على حكومتين، وسوريا التي عرفت مقتل وتهجير الملايين، واليمن الذي أصبح عمليًا دولة فاشلة، فالأحرى ما جرى في دول أخرى.

إذا كان لمفكّر عربي معاصر أن يدلي بآراء سياسية بخصوص هذا المشهد السياسي الانقسامي، فعلى الأقل، ينبغي أن يبتعد عمّا يساهم في تكريس هذا التشرذم، والإدلاء بما يفيد التقزيم منه، وإلّا فالصمت أحسن.

ما أحوجنا إلى خطاب فكري نافع من الطينة المغذّية للمشترك العربي والمعادية للانقسامات وتصفية الحسابات

ثمّة إشارة بليغة ودالة للفقيد محمد عابد الجابري، تفسّر لنا كيف لم يتورط الراحل في ما تورطت فيه العديد من أقلام الساحة الفكرية/الدينية العربية منذ سنوات، ومع أنّها تهم المجال البحثي الخاص بالتعامل مع التراث العربي الإسلامي، إلّا أنّها تنطبق كذلك على المجال السياسي العربي الراهن.

نقرأ للجابري: "ما يُميّز مساري عن مسار كثيرين هو أنّه يتحرك على ثلاثة محاور متكاملة: محور النقد وإعادة البناء والترتيب لتراثنا الفكري بمختلف منازعه وتياراته، ومحور التأصيل الثقافي للمفاهيم والمناهج التحديثية وقيم الحداثة المعاصرة، ومحور نقد العقل الأوروبي وتصوّراته الموجهة بالمركزية الأوروبية".

ما أحوجنا إلى خطاب فكري نافع من هذه الطينة المغذّية للمشترك العربي، والمعادية دولًا وعرضًا للانقسامات والصراعات وتصفية الحسابات، وواضح أنّ هذا الخيار، ينتصر بالضرورة في مصلحة الأمن الفكري العربي المعاصر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن