بصمات

الأمن الفكري العربي المعاصر

انخرطت مجموعة من أقلام منصّة "عروبة 22" في نشر مقالات تدور في فلك صيانة الأمن المركّب الذي يهم المنطقة العربية، من قبيل الحديث عن "الأمن الغذائي" و"الأمن البيئي" و"الأمن الطاقي"، وقضايا موازية في الاتجاه نفسه. وواضحٌ أنّ هذه السلسلة من المقالات لم تصدر من فراغ، أو أنّها جاءت صدفة ولا بالأحرى تُصنّف في خانة الترف الفكري، لأنّ المشهد أعقد بذلك بكثير، ما دام يهمّ مسألة حيوية ومصيرية ولا تحتمل التردّد في التفاعل أو تبني اللامبالاة، بصرف النظر عن مآل هذه الرؤى والمقاربات، لأنّه في نهاية المطاف، الترجمة العملية لهذه الرؤى توجد بين أيدي صانعي القرار، لكن، يُحسب لمجمل هذه الأقلام الفكرية، شرف التنبيه والتدقيق، ولو من باب إبراء الذمة، إن صحّ التعبير.

الأمن الفكري العربي المعاصر

في هذا السياق بالتحديد، نتحدث في هذه المقالة عن الأمن الفكري العربي المعاصر: العنوان هنا مباشر وصريح، من خلال حدثيه عن أمن فكري عربي معاصر بالتحديد، بما يتطلب بعض تدقيق:

- نتحدث عن أمن فكري على غرار باقي أنماط الأمن سالفة الذكر، بل إنّه في الحالة المغربية مثلًا، وفي سياق إعادة هيكلة الحقل الديني على ضوء الاعتداءات التي تعرضت لها الدار البيضاء في 16 مايو/أيار 2003، رَوجت المؤسّسات الدينية شعار "الأمن الروحي"، من باب التأكيد على جديّة المشروع، أي أنّ إعادة النظر في أداء تلك المؤسّسات وأداء الفاعلين ومضامين الخطاب الديني وملفات أخرى، ليست مسألة شكلية أو صورية، وإنّما تندرج في صُلب صيانة أو حماية الأجواء الروحانية والدينية للمواطنين، ومن هنا أصل الحديث عن "أمن روحي".

تبعات أحداث 2011 التي مرّت منها المنطقة العربية أفرزت دولًا فاشلة أو دولًا تكاد تصبح بحكومتين

- نتحدث عن السياق العربي لهذا الأمن الفكري حتى تكون الصورة واضحة بخصوص المستهدَف من إثارة الموضوع، ومن ذلك أنّنا لا نتحدث عن الأمن الفكري في محور طنجة جاكارتا مثلًا، لاعتبارات عدّة، أقلّها أنّ الأمر يتطلّب الأخذ بعين الاعتبار عدّة محدّدات تُميّز هذا المحور، كما يقتضي أيضًا استحضار التباين في معالم الأمن الاستراتيجي لبعض قوى هذا المحور، بل إنّ بعضها منخرط عمليًا في منافسة أو تقويض الأمن الاستراتيجي العربي، والنموذج هنا ضمن نماذج أخرى، تعامل المشروع التركي أو نظيره الإيراني مع القضايا العربية المصيرية، بالأمس واليوم.

- وأخيرًا، نتحدث عن الأمن الفكري العربي في السياق المعاصر دون سواه، وخاصّة سياقات ما بعد منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن (11 سبتمبر/أيلول 2001)، فالأحرى تبعات أحداث 2011 التي مرّت منها المنطقة العربية، والتي أفرزت دولًا فاشلة أو دولًا تكاد تصبح بحكومتين، دون الحديث عن مآسي إنسانية حقيقية مرّت منها دول أخرى، من قبيل ما جرى في سوريا واليمن ضمن أمثلة أخرى.

نتفهّم صمت صانع القرار عن الخوض في التحوّلات السلبية في الساحة بينما الأمر مختلف كليًّا مع أهل النظر الفكري والديني

ساهمت هذه الأحداث المفصلية في ظهور مستجدات وتحديات كانت غائبة من قبل، سواء تعلّق الأمر بمستجدات سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية، إلّا أنّ الذي يهمنا أكثر هنا في هذا المقام، التركيز على المستجدات الفكرية، وذلك لاعتبارين اثنين على الأقل: الأول أنّه تحقّق تراكمٌ كميٌ ونوعيٌ في الاشتغال البحثي على تلك التطورات أو المستجدات التي همّت الحقول السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها، بخلاف الأمر مع المستجدات التي تهمّ ما جرى من تحوّلات في التفاعل أهل النظر الفكري والديني مع تلك الأحداث؛ والثاني أنّه ثمة عدة قضايا مسكوت عنها أو تقترب من مقام "التابو"، كلما تعلّق الأمر بطرق باب التحوّلات الفكرية.

والحال أنّه يمكن أن نتفهّم صمت صانع قرار سياسي أو أمني مثلًا، إن عمِل بمبدأ واجب التحفّظ أو الانتصار للخيار الدبلوماسي في معرض صرفه النظر عن الخوض في التحوّلات السلبية التي جرت في الساحة، بينما الأمر مختلف كليًّا مع حالة أهل النظر الفكري والديني، بل إنّه من صميم مسؤولية المثقف (بما في ذلك المثقف الديني)، بأن يتحمّل بعضًا من مسؤولية المثقف كما نَظّرت أقلام إقليمية وعالمية منذ عقود مضت (ميشيل فوكو ونعوم تشومسكي وإدوارد سعيد، ضمن أمثلة أخرى).

هذه وقفة أولية مع الموضوع، من باب إثارة الانتباه، على أمل التوقف في وقفة ثانية عند معالم الاشتغال النظري المعاصر لأقلام الساحة على ما يخدم هذا الأمن الفكري العربي المعاصر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن