السؤال الذي يمكن أن يطرحه البعض ما الذي يدفع طلاب أكبر بلد داعم لإسرائيل للتظاهر دعمًا لشعب غير جار ولا حليف ولا ينتمي ثقافيًا لمنظومة القيم نفسها التي ينتمي لها الطلاب الأمريكيون ومع ذلك تظاهروا دعمًا له وطالبوا بوقف دعم الحليف الإسرائيلي الذي يشبه شكل شعبه ونمط حياته شكل أمريكا ومعظم الأمريكيين؟.
إنّ احتجاجات الطلاب الأمريكيين تقول إننا أمام شعوب لا زالت "ضمائرها حيّة"، وإنّ مشاهد القتل والتهجير لعشرات آلاف المدنيين الأبرياء من أطفال ونساء حرّكت ضمائرهم، بصرف النظر عن موقفهم من "حماس" أو إلمامهم بالقضية الفلسطينية أو رأيهم في الانقسام الفلسطيني، إنما كانت هناك قيمة عليا تقول إنه لا يمكن أن يقبل ما تبقى من ضمير العالم جرائم الإبادة الجماعية المتعمّدة ويتفرّج عليها الشباب صامتين أو متواطئين.
القضايا المبدئية التي تمسّ قيمًا أساسية فطرية وُلِد عليها الإنسان عابرةٌ لكل الأعراق والثقافات والأديان
ولعل الإجابة عن سؤال لماذا طلاب الجامعات الأمريكية يحتجون أكثر من نظرائهم في أي مكان في العالم بما فيها الجامعات العربية والأوروبية، فإنها ترجع في أحد جوانبها الأساسية إلى أنّ معظم البلاد الأوروبية تمتلك ثقافة استعمارية ضاربة في جذور التاريخ، صحيح أنّ هناك دائمًا من عارضوا هذه السياسات من داخل هذه المجتمعات، إلا أنّ وطأة هذا التاريخ بجانب شعور قطاع من الأوروبيين بأنّ ثقافتهم مهددة من الجاليات العربية والإسلامية حتى لو حملت جنسيات أوروبية، مما جعل كثيرًا منهم متحفظًا على دعم أي قضية تخصّ العرب حتى لو كانت قضية إبادة جماعية.
أما أمريكا، فصحيح أنّ لديها سياسة استعمارية ولكن ليس تاريخًا استعماريًا، ولديها ثقافة مهاجرين هم من صنعوا أمريكا، وحتى لو حدث تمييز بينهم لصالح الرجل الأبيض على حساب الرجل الأسود، إلا أنّ الأصل بقي أنّ ثقافة أمريكا "مُصنّعة" حديثًا وتقبل من أي شخص مهما كان لون بشرته أو أصله أن يصعد في السلّم الوظيفي والسياسي طالما التزم بالقوانين الأمريكية، ولذا لم يكن غريبًا أن يكون اندفاع هؤلاء الشباب الأمريكي لدعم القضية الفلسطينية دون عُقد أو عوائق تاريخية أو ثقافية.
والحقيقة أنّ رسالة طلاب الجامعات الأمريكية إلى العالم وخاصة لنظرائهم الصامتين في معظم الجامعات العربية مهمّة وربما تكون ملهمة لأسباب كثيرة منها أنّ معظمهم ليسوا من أصول عربية أو إسلامية حتى لو كانت نسبتهم معتبَرة، كما أنهم يضمون في احتجاجاتهم كل الأعراق والديانات على خلاف المظاهرات المؤيدة لإسرائيل التي لا تجد فيها إلا ذوي البشرة البيضاء، وهو ما يعني أنّ القضايا المبدئية التي تمسّ قيمًا أساسية فطرية وُلِد عليها الإنسان عابرةٌ لكل الأعراق والثقافات والأديان، وأنّ ضغوط أبناء الشعوب غير العربية فاقت نظرائهم في العالم العربي.
رسالة طلاب الجامعات الأمريكية للصامتين العرب تقول إنّ النقاش الذي نجده في كثير من البلاد العربية عن "حماس": هل هي "حلوة" أو "سيئة"؟ غائب عن الطلاب الأمريكيين، فهم بالقطع ليسوا مع مشروع "حماس" ولا مع إيديولوجيتها وتوجّهاتها العقائدية، ولا يناقشون مثل البعض في العالم العربي هل "حماس" هي امتداد لـ""الإخوان" أم لا؟، أو كما يُصرّ البعض في بلادنا على أن يحوّل مقاومة الاحتلال والقتل والتهجير والإبادة الجامعية لنقاش حول "حماس" التي تهدّد أمن مصر أو انقلبت على السلطة الفلسطينية، وينسى القضية الأصلية أنّ هناك شعبًا يُذبَح ويخوض في تفاصيل صغيرة يصفي فيها حساباته مع "حماس" وينسى الشعب الفلسطيني.
الشوائب التي أدخلتنا في زواريب وأزقة استُدعيت فيها مرارات وخلافات سياسية أنستنا جرائم الإبادة الجماعية
رسالة طلاب الجامعات الأمريكية تقول إنهم ذهبوا إلى "الموقف الصافي" دون أي عُقد، وهو أنّ هناك جريمة إبادة جماعية يرتكبها جيش الاحتلال، وأنّ بلدهم يدعمه بدون أي شروط وبفضل هذا الدعم ظلّت إسرائيل دولة محصّنة فوق القانون والمحاسبة، وهو ما استفز تيارًا شعبيًا وطلّابيًا متزايدًا يريد تغيير هذه السياسات غير العادلة خاصة من قبل شباب لديهم نقاء وضمير حي وبعيدين عن حسابات النخب الحاكمة.
صمت الجامعات العربية باستثناءات محدودة في لبنان وحضور حقيقي لحراك شعبي في المغرب، يقول إنّ أزمتنا كبيرة، صحيح أنّ الاستبداد والقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي سبب رئيسي وراء هذا الصمت العربي لكن أيضًا هناك العديد من الشوائب التي أدخلتنا في زواريب وأزقة استُدعيت فيها مرارات وخلافات سياسية أنستنا جرائم الإبادة الجماعية التي تُرتكب في غزّة ولم ينسَها الطلاب الأمريكيون.
(خاص "عروبة 22")