إذ يمكن أن يسبّب تأثير هذه المواقع على العقول أثناء الأزمات الداخلية إلى اضطرابات وفتن أهلية، كما حدث عام 2018 في سريلانكا، حيث اعترف "فيسبوك" بدوره في أعمال الشغب الدموية المناهضة للمسلمين واعتذر عنها، كما يمكن أن تؤثر الشبكات الاجتماعية على قيم الأطفال والمراهقين بالمنطقة ولا سيما أنّ الأطفال في العصر الحالي يقضون معظم أوقاتهم أمام هذه الوسائل.
وبالتالي، فإنّ الحاجة لمقاربة عربية شاملة للتعامل مع شركات التكنولوجيا العالمية مسألة تتعلق بالأمن القومي والاجتماعي للعالم العربي، وليس فقط متعلقة بالظلم البيّن الذي تُلحقه هذه الشركات بقضية العرب المركزية "القضية الفلسطينية"، وهو الظلم الذي يساهم في تفاقم الدعم الغربي لإسرائيل عبر تحجيم نقل الصورة الواقعية للمذبحة الجارية بحق غزّة.
تواصل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الضغط لحجب المحتوى الفلسطيني ولم يكن هناك رد فعل عربي مضاد
وكان إنحياز منصات التواصل الاجتماعي، ضد المحتوى الفلسطيني فجًا للغاية لدرجة قوبلت بانتقادات شديدة من منظمات حقوقية دولية، فمنظمة "هيومان رايتس واتش" وثقت بين أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2023 فقط، أكثر من 1050 عمليات إزالة وقمع لمحتوى على "إنستغرام" و"فيسبوك" نشره فلسطينيون ومؤيدوهم، بما في ذلك ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان.
ورغم هذا الانحياز السافر تواصل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الضغط على هذه الشركات لتقوم بمزيد من الحجب للمحتوى الفلسطيني وهو ما يبدو أنه أدى بالفعل إلى تغيّر في موقف إيلون ماسك مالك موقع "أكس" (تويتر سابقًا) لينضم إلى جوقة الإنحياز لإسرائيل بعدما هدده معلنون كبار والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على منصته.
وفي المقابل، لم يكن هناك رد فعل جماعي عربي مضاد، رغم وجود إطار لذلك، حيث أنّ مجلس وزراء الإعلام العرب أقرّ في صيف 2023، استراتيجة للعلاقة مع شركات التكنولوجيا العالمية وجاء ذلك إلى حد كبير ردًا على محتوى موجّه للأطفال يشجع على المثلية بمنصة "نتفلكس".
والواقع أنّ هناك خبرة للاتحاد الأوروبي يمكن الاستفادة منها لفرض قواعده على مواقع التواصل الاجتماعي سواء ما يتعلّق بعدم إخراج بيانات المستخدمين خارج الاتحاد، أو النواحي المالية، وكذلك بالنسبة المحتوى، كما فرضت تركيا مؤخرًا عقوبات مؤقتة على شركة "ميتا" بسبب إساءة محتملة لقواعد المنافسة.
وتستطيع الدول العربية تنفيذ تحرّك مماثل أو التلويح به على الأقل، خاصة أنّ عدد سكان العالم العربي قريب من الاتحاد الأوروبي، ورغم أنّ حجم الاقتصادات العربية أقل من الاتحاد الأوروبي لكنه يظل ضخمًا ومؤثرًا.
المنطقة العربية واحدة من أكثر الأسواق نموًا لمنصات التواصل الاجتماعي
المنطقة العربية من أكثر الأسواق نموًا بالنسبة لشركات التواصل الاجتماعي، وهناك خمس دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم العالم العربي وتركيا وإيران ضمن قائمة العشرة الأوائل في نسب استخدام الشبكات الاجتماعية على مستوى العالم.
اللغة العربية تحتل المرتبة الرابعة لدى مستخدمي "فيسبوك"
لدى "فيسبوك" نحو 218.1 مليون مستخدم في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط وفقًا لأرقام إبريل/نيسان 2023، من بين نحو 3 مليار مستخدم للموقع، وهي نسبة تفوق كثيرًا نسبة سكان المنطقة من إجمالي سكان العالم، بينما يبلغ عدد مستخدمي "فيسبوك" في الولايات المتحدة 186.4 مليون، حسب منصة Datare Portal المعنية بالمعلوماتية.
على الرغم من أنّ اللغة العربية، هي اللغة الـ15 للمحتوى على الإنترنت، إلا أنها تحتل المرتبة الرابعة لدى مستخدمي "فيسبوك"، في مؤشر على استخدام عربي كثيف لهذه المنصة تحديدًا.
وتضمّ مصر 47 مليون مستخدم لـ"فيسبوك"، في إبريل/نيسان 2023، مما يجعلها عاشر أكبر سوق للمنصة في العالم، وتتمتع ليبيا بأكبر نسبة استخدام للمنصة على مستوى العالم، حيث يستخدمها 96.1% من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 13 عامًا.
وهناك ثلاث دول بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن أفضل 20 سوقًا لمنصة "أكس" ، وتُعتبر دول الخليج تحديدًا سوقًا مهمّة لها بالنظر لاستخدامها المكثّف هناك وارتفاع مستوى الدخل بهذه الدول.
وفيما يتعلق بتطبيق "TikTok" الصيني الذي يتعرّض لضعوط من المشرّعين الأمريكيين لتقييد المحتوى الفلسطيني، فإنّ عدد مستخدميه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كان 171 مليون فرد في عام 2023، مقارنةً بـ192 مليونًا بأمريكا الشمالية، و238 مليونًا في أوروبا و207 ملايين بأمريكا اللاتينية. و9 دول بالمنطقة تُصنّف ضمن أفضل 20 دولة في استخدام "تيك توك".
منصات التواصل تقود مبيعات التجزئة بالمنطقة ويُتوقّع توسّعها بشكل كبير
تقود منصات التواصل الاجتماعي أكثر من 30% من المشتريات في سوق التجزئة المزدهر بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والذي تبلغ قيمته 400 مليار دولار، حسب دراسة لشركة RedSeer، والتي تتوقع إيرادات إضافية هائلة بقيمة 10 مليارات دولار خلال الخمس سنوات المقبلة، حيث يتزايد التسوّق عبر وسائل التواصل بشكل يحاكي دولًا مثل الصين وبعض دول جنوب شرق آسيا.
ويُقدّر إجمالي سوق الإعلانات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حاليًا بنحو 7 مليارات دولار، منها حوالى 5.5 مليار دولار للإعلانات الرقمية.
ولا تتوافر بيانات موثوقة عن إيرادات شركة "ميتا" بالمنطقة بشكل منفصل، ولكن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا تشكّل معًا نحو 10.9% من إيرادات "ميتا" بقيمة تبلغ 14.7 مليار دولار في عام 2022، ورغم أن نصيب منطقتنا ما زال ليس كبيرًا، إلا أنّ هذه الأسواق الثلاثة تمثّل أهمية خاصة لشركات التكنولوجيا لأنها الأكثر نموًا بعدما اقتربت الأسواق الأكثر ثراءً وتقدّمًا بأوروبا وأمريكا الشمالية من التشبّع، الأمر الذي يعزّز قدرة العالم العربي على الضغط على هذه الشركات.
كيف يمكن للعالم العربي أن يتعامل مع شركات التكنولوجيا العالمية؟
إنّ تحرك الدول العربية للضغط لحماية المحتوى الفلسطيني ولو على سبيل التلويح بفرض عقوبات على المنصات مثل تقييد تحويل الإيرادات، قد يسهم بتقليل قمع المحتوى الفلسطيني حتى لو لم يوقفه، كما أنه قد يكون بداية لتنظيم العلاقة في القضايا الأخرى مثل النواحي المالية والأخلاقية والمخاوف من إثارة الفتن الداخلية (والتي كثيرًا ما تتم بشكل تلقائي نتيجة ميل الخوارزميات للإثارة).
تحتاج الدول العربية لإنشاء جسم مؤسسي متخصّص وألا يبدو هدف العملية قمع الحريات أو تحقيق أهداف الأنظمة
لكن تحتاج الدول العربية لإنشاء جسم مؤسسي متخصّص للتعامل مع هذه المنصات والأفضل أن يكون تحت مظلة مجلس وزراء الإعلام العرب، وفي الوقت ذاته، من الأهمية بمكان ألا يبدو هدف العملية قمع الحريات أو تحقيق أهداف الأنظمة الذاتية، بل تحتاج المؤسسة العربية المنوط بها هذا الملف أن تضع قيمًا ومعايير عربية مشتركة لا تعبّر عن أهداف الحكومات فقط بل تمثّل نقاط التقاء القيم المتفق عليها بين الحكومات والمعارضة والشعوب والمنظمات المعنية والتيارات السياسية المختلفة والقيم العالمية، وألا تنحاز للحكومات أو القيم المحافظة اجتماعيًا في مواجهة القيم الأكثر لييرالية، وإلا ستفضي التجربة لهدف معاكس، ستبدو فيها منصات التواصل وكأنها هي التي تدافع عن الحريات، وسوف تثير المحاولة معارضة وانتقادات شعبية، وحتى خلافات بين الدول العربية.