اقتصاد ومال

احتجاجات الطلاب الأمريكيين... في الاقتصاد السياسي

محمد زاوي

المشاركة

هل كان الطلاب في أمريكا ينتظرون سبعة أشهر للتعبير عن مواقفهم الرافضة للعدوان؟! ألم تكن "مجزرة المعمداني" في الشهر الأول من العدوان كافية لإخراج الطلاب الأمريكيين من المدرجات وقاعات الدرس؟! لماذا يتأجج الاحتجاج الأميركي في هذا الوقت بالذات؟! وهل سنكتفي بالتصفيق لهذه الاحتجاجات مستبشرين بآفاقها دون عرضها على مشرحة التحليل في عالم يستعد لنسخته الجديدة؟! هل استفاقة الرأي العام الغربي كافية لتفسير ما يحدث في الجامعات الأميركية؟!.. أسئلة وغيرها، هناك من فضّل عدم طرحها، بل فضّل النسج على منواله القديم والمعتاد؛ التحليل بظاهر الأحداث، والانتقال سريعًا لاستخلاص العبر!

احتجاجات الطلاب الأمريكيين... في الاقتصاد السياسي

ما يحدث في أمريكا يجب قراءته اليوم باستصحاب فكرتين منهجيتين لا بد منهما؛ نقصد: وحدة التناقض، وجدل المجتمع والدولة. أمريكا ليست وحدة واحدية غير جدلية، وإنّما هي تناقضٌ قديمٌ بين رأسمالين، أي بين طرفين من الطبقة الاجتماعية نفسها. وقد عرف هذا التناقض تطورًا حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم، حيث تستعصي ممارسة التناقض بين "المجمع الصناعي المدني" و"المجمع الصناعي العسكري" بسلاسة، الأمر الذي أفضى إلى اقتحام الكابيتول بعد خسارة ترامب وفوز بايدن، في مجتمع تمارس فيه السلطة عنفًا خاصًّا، وفي ظل قوانين تسمح بامتلاك السلاح واقتنائه من المتاجر المخصّصة لذلك!

وأيضًا، يجب استصحاب "العلاقة الجدلية بين الدولة والمجتمع" في الولايات المتحدة الأميركية. فليست في أمريكا طبقة مستقلة ومنظمة خارج سيطرة الرأسمال، بل المسيطِر فيها - أي في أمريكا - هو الرأسمال المالي بمجمّعيه. إنّ هذا الرأسمال يصنع تناقضًا من تناقضه الاقتصادي - السياسي (التناقض الاقتصادي بين المجمّعين المذكورين/السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين) في شتى مناحي الحياة العامة الأميركية، في الجامعات والسينما والغناء والقنوات التلفزية والصحف والمجلات.. من يتابع الشأن العام الأميركي يجد هذا التناقض واضحًا جليًّا، مع بعض التداخلات التي تفرضها ظروف المعاملات الاقتصادية والممارسة السياسية.

الجامعات الأميركية ليست جامعة دولة إنما يمتلكها الرأسمال كمشاريع للربح وممارسة الإيديولوجيا والسياسة

قبل مدة (أشهر أو أقل)، تم منع نشاط عن إدوارد السعيد في جامعة "كولومبيا"، ومعلوم الخط الذي يمثله إدوارد السعيد في علاقته النظرية بالسلطة، وهو بذلك خصمٌ للجمهوريين، وهم بالضبط من لهم مصلحة في منع نشاط يحتفي به أو يستلهم فكره. نضيف إلى هذا أنّ الجامعات الأميركية ليست جامعة دولة، وإنّما هي جامعات خواص، أي يمتلكها الرأسمال كمشاريع للربح وممارسة الإيديولوجيا والسياسة. وعليه فإنّ الخروج ضد سياسة بايدن في هذه الفترة بالذات، يعني فيما يعنيه إلقاء ورقة في ساحة الصراع بينه وبين ترامب، أي في سياق الصراع بين مجمّعي الرأسمال المالي الأمريكي. يُصبح هذا التحليل أكثر تأكيدًا إذا تأكدت العلاقة بين الجامعات المحتجة ومجمّع الرأسمال المدني، وإلّا فإنّ الحدث يقتضي تحليلًا آخر!

التحليل الثاني، والذي يحوز بدوره قدرًا من الإمكان، يجعلنا نتساءل عن الذي يجري في كواليس المفاوضات بين أمريكا وإسرائيل والفلسطينيين وباقي الأطراف المعنية. فهل الأمر أشبه بالاحتجاجات التي سبقت الانسحاب الأميركي من فيتنام في سبعينات القرن الماضي (بعد اتفاق بين هنري كيسنجر وفيتنام وباقي الأطراف)؟!

الاحتجاجات الأميركية الأخيرة من الصنف التقدّمي في التاريح يمليها تحوّل أميركي وعالمي وعربي

أليس ما يقع من احتجاجات مجرّد إخراج سياسي لما هو منتظر أو لعل المفاوضات تأخذ مجراها نحوه؟! هناك من سيعتبر هذا الكلام تحليلًا بـ"منطق المؤامرة"، فنقول: "ليس في العالم إلّا المؤامرة، ولا عفوية في السياسة الدولية". ليس هذا كلام صاحب هذا المقال في الأصل، وإنّما كلام كثيرين خبروا ما يجري في غرف التجارة والسياسة الدوليتين، لعلّ أبرزهم فالنتاين كتاسانوف الذي قال إنّ "هناك حركة اقتصادية وسياسية غير التي نراها تبدأ ليلًا وتنتهي صباحًا".

ليس هذا الكلام ازدراءً مقصودًا لحركة الجماهير، فللجماهير أدوار مهمة لا ينبغي إنكارها؛ إلّا أنّها أدوار تكون رجعية إذا أملاها تحوّل رجعي في التاريخ، كما تصبح تقدّمية إذا أملاها تحوّل تقدّمي فيه (التاريخ). ونحن نرى أنّ الاحتجاجات الأميركية الأخيرة من هذا الصنف الثاني، يمليها تحوّل أميركي لصالح المجمّع الصناعي المدني (الرأسمال المالي الأقل رجعية)، وتحوّل آخر عالمي سيفضي إلى تعددية أو ثنائية قطبية (أمريكا/ الصين/ روسيا/ أوروبا)، وتحوّل ثالث عربي سيفضي إلى تحرير الوطن العربي وقراره السيادي من الإمبريالية الغربية!

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن