تعج ضواحي وهوامش المدن والحواضر الأوروبية بشباب الجاليات العربية والمسلمة، الذين في أغلبهم ولدوا وترعرعوا في هذه البلدان، غير أنّ أعدادًا منهم فشلوا في تحقيق الاندماج في تلك المجتمعات، لأسباب اجتماعية أو نفسية أو حتى تمييزية.
وأمام هذا الفشل الذي يواجهه الشاب بخلفيّته العربية والمسلمة في ضمان مكان له داخل المجتمع الذي استضافه وأسرته، فإنّه يجد أمامه ثلاثة مسارات لا يقل ضرر الواحدة منها عن الأخرى، فإمّا يتقوقع على نفسه ويصبح عالة على أسرته وعلى محيطه ومجتمعه هناك، وإمّا أنّه يتدثر بعباءة التطرّف الديني، أو أنّه يتسلّل إلى العصابات الإجرامية المحلية التي تتنامى أحيانًا لتصبح شبكات وطنية ودولية في بيع الممنوعات وغسل الأموال وغيرها من الجرائم.
ظروف النشأة
في هذا الصدد يستعرض أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كندا، الدكتور مولاي هشام معتضد، في حديث مع "عروبة 22"، عددًا من الدوافع السياسية والاجتماعية والنفسية، بالإضافة إلى العوامل التنظيمية المرتبطة بالبيئة والتربية والتكوين والبُعد الديني، حيث إنّ انجرار معظم شباب الجاليات عمومًا والعربية خاصة إلى مستنقعات التطرّف والمنظمات الإجرامية، سببه يكون نتيجة "خلل مباشر أو غير مباشر في الدوافع والعوامل التي لها ارتباط بظروف النشأة ومحيطها البيئي".
ويشرح معتضد قائلًا: "الدولة والأسرة يتحمّلان مسؤولية كبيرة ومباشرة في مسار انحراف هذه الفئة من الشباب، نظرًا لارتباط كل منهما بمسار بناء الشخص وتوفير بيئة مناسبة لتكوينه وصقل بنيته السيكولوجية والشخصية، فيما يتحمل الشاب المسؤولية في قرارات انخراطاته الاجتماعية وتدبير تحدياته البيئية وكسب رهانات تأقلمه المجتمعي انطلاقًا من بنيته الفكرية".
سياسات الهجرة والاندماج
ويرى معتضد أنّ سياسات الهجرة والاندماج الفاشلة لدول الاستقبال تؤثر بشكل مباشر وحاسم على الانزواء الاجتماعي لهاته الفئة من الشباب، والذين يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان قد انخرطوا في الجماعات الإجرامية والإرهابية "كرِدة فعل" على تلك السياسات التي جعلتهم غير قادرين على التموقع في صنف اجتماعي اعتباري يُقدّر بعدهم الإنساني ويحترم مساهماتهم المدنية والقَيمة المضافة لأسرهم في بناء دول الاستقبال.
ولاحظ أنّ عدم نجاح منظومة دول الاستقبال في احتواء هذه الفئة الهشة يفتح الطريق أمام مجنّدي الجماعات الإجرامية والإرهابية لاستغلال هذا الفضاء الخصب من الفئة الشبابية من تنزيل مخططاتهم التجنيدية أو مخططاتهم التخريبية عبر نهج مقاربة التقدير الاعتباري والتضليل الفكري كمنهجية لاستقطاب أكبر عدد من هؤلاء الشباب التائهين فكريًا واجتماعيًا في مجتمعات دول الاستقبال.
بل إنّه خارج دائرة عملية الاستقطاب أيضًا، يوجد ما يُصطلح عليهم بـ"الذئاب المنفردة"، والذين من تلقاء نفسهم ينخرطون في تبني فكر إجرامي أو إرهابي نتيجة ظاهرة الرفض الاجتماعي التي تُقَوِّيها سياسات الاندماج الفاشلة للدول المستقبلة، وبالتالي تدفع العديد من الأشخاص ذوي التكوين المحدود أو البنية النفسية الهشة للبحث عن فضاءات لتقدير الذات وبناء الثقة على غرار العديد من المنصات الإجرامية والإرهابية المتوفرة في مواقع التواصل الاجتماعي.
التحريض والحملات الإعلامية
كذلك، يرصد الباحث في الاتصال والحوار الحضاري، الدكتور المحجوب بنسعيد، في حديثه مع "عروبة 22"، واقع شباب الجاليات المسلمة والعربية في كثير من الدول الأوروبية، إذ يُعتبرون "صيدًا ثمينًا لعمليات استقطاب الجماعات المتطرّفة". وعزا هذا الواقع إلى "الانتشار الواسع لاستعمال تكنولوجيا الإعلام الجديد التي أصبحت لدى الجماعات المتطرّفة، أداةً خطيرة للتحريض على الآخر، ونشر الأفكار المتطرّفة باسم الجهاد المقدّس من أجل الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مختلف بقاع العالم، وإعلاء راية التوحيد، ومحاربة الظلم والفساد".
ووفق بنسعيد، تتضافر أسباب عديدة ومتنوعة تدفع بهؤلاء الشبان لمغادرة الدول الأوروبية التي يحلم بالهجرة إليها ملايين الشبان من أمثالهم في العالم العربي وأفريقيا، والمغامرة بالسفر إلى الأماكن التي توجد فيها معسكرات الجماعات المتطرّفة، من بينها الإحساس بالتهميش والمعاناة من العنصرية والكراهية داخل المجتمعات الأوروبية بسبب الحملات الإعلامية المسيئة للإسلام ومقدّساته، والخطابات السياسية لأحزاب اليمين المتطرّف الداعية إلى طرد المسلمين والمهاجرين.
ضعف الشعور بالانتماء
ومن بين هذه الأسباب أيضًا، يعدّد بنسعيد، ضعف شعور هؤلاء الشباب بالانتماء إلى الأسرة والمجتمع، مما يؤدي بهم إلى العزلة والبحث عن انتماء بديل، تحت تأثير قوي للأفكار المنحرفة والرغبة في التمرّد والتدمير، في غياب ملحوظ للتأطير الديني الوسطي المعتدل الفاعل والمستدام سواء في المساجد أو المراكز والجمعيات الثقافية الإسلامية في الدول الأوروبية أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، يؤكد خبراء في مجال علم النفس الاجتماعي أنّ الشباب من أبناء الجاليات المسلمة الذين اعتُقلوا بتهمة التشدّد الديني يعانون من "فراغ روحي واهتزاز نفسي"، كما أنّهم ضحايا فشل سياسات الادماج التي اعتمدتها كثير من الحكومات الأوروبية، دون مراعاة خصوصياتهم الدينية والثقافية.
وأوضح تقرير أصدره "المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات" عام 2022 أنّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية تُعد من بين أهم أسباب سفر بعض شباب الجاليات المسلمة في ألمانيا وهولندا إلى معاقل الجماعات المتطرّفة في سوريا، وأنّ تطرفهم أتى كرد فعل دفاعي ضد الإقصاء والتبعية والتغريب والعزلة والحرمان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
(خاص "عروبة 22")