بصمات

الفقر في أعلى مستوياته: عودة العنف والأزمات!

وصلت نسبة الفقر في العالم ٳلى مستوياتٍ عاليةٍ جدًّا وغير مسبوقةٍ منذ ثلاثة عقود، ولم يعُد المعدّل محصورًا بالدول النامية والناشئة، حيث شهد العام 2025 ديناميّة ارتفاع جديدة في الدول المتقدّمة على الرَّغم من انخفاض التضخّم، نتيجة فقدان العمل والأجور المُنخفضة وإنشاء الشركات الفردية، التي لا تعكس ملامح التنمية وتحدّ من الفقر. 

الفقر في أعلى مستوياته: عودة العنف والأزمات!

وفقًا لبيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية للعام 2023، بلغ معدل الفقر نحو 15.4% للمرة الأولى قبل ثلاثين عامًا في فرنسا، في مستوياتٍ غير مسبوقةٍ منذ الجمهورية الخامسة، وربّما منذ ثورة 1789 من حيث دلالاتها الرّمزية والاجتماعية. وقام المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (Insee) بقياس الفقر وعدم المساواة على كامل سكّان فرنسا "المتروبوليتانية". وأظهرت النتائج المسجّلة لعام 2023، أنّ 10 ملايين شخص يعيشون تحت عتبة الفقر النّقدي، وحوالى 650.000 شخص انزلقوا إلى دائرة الفقر خلال عامٍ واحدٍ، وهي الزيادة الأكبر منذ عام 1996. وفي الوقت نفسِه، تفاقمت التفاوتات في المداخيل ما بين الـ20% الأغنى من السكان، وتلك التي حصل عليها الفقراء.

النظام الاقتصادي العالمي يمرّ بأزمة بنيوية

إنّ هذه الأرقام "كارثيّة" والمفارقة أنّ هذا يحدث في بلدٍ يُعدّ من أوائل من أعلن "حقوق الإنسان والمواطِن"، ورمزًا للعدالة الاجتماعية. وإذا كانت فرنسا، قلب الثورة والحداثة تغرق في الفقر، فماذا يتبقّى للدول الفقيرة والناشئة من فضيحة الفقر والحرمان؟. والواقع، في عالمٍ يُنتج سلعًا أكثر من المطلوب لإطعام الناس بصورة لائقة، لم يَعُدْ الفقر مشكلة دول "جنوب العالم"، بل أصبح أزمةً عالميةً تشمل الدول الغنيّة، والسبب أنّ النظام الاقتصادي العالمي يمرّ بأزمةٍ بنيوية ولم تعد الفجوة الاجتماعية الضخمة تفصل بين الشمال والجنوب فقط، بل توجد داخل كلّ بلد، حيث ينتشر الفقراء والمتشرّدون في الشوارع، وأحيانًا في مَدًى ليس له علاقة آلية بمستويات الدخل والتوظيف (يتمتّع السكان في الولايات المتحدة الأميركية بأعلى نصيبٍ للفرد من الدخل، ومع ذلك تُسجَّل نسبة تضخّم بحدود 5%).

يعيش اليوم أكثر من 3 مليارات نسمة في فقرٍ مدقع، وبصورةٍ خاصةٍ في بلدان القرن الأفريقي (40%). هذا مؤشر خطير يدل على تدهورٍ في السعي لتحقيق التنمية الشاملة والمُستدامة، على نحو ما يُفسَّر جزئيًا بانخفاض نفقات الاستهلاك، وارتفاع تكاليف المعيشة، والإيجارات، والفواتير، والمواد الغذائية، ودفع الفواتير، بما في ذلك الإيجار، والكهرباء، والتأمين، وأقساط المدارس، وقرض السيارة. لم يتبقّ للعائلات ما يكفي لتأمين الطعام أو الاحتياجات الأساسية. وعلى الرَّغم من أنّ الناس تعمل، فهي تبقى فقيرة فعلًا، والبعض يحلم فقط بأن يأكل ويضطرّ فقراء المدن إلى طرق أبواب الجمعيّات لتناول الغذاء.

البطالة تمثّل مشكلة حادّة في معظم البلدان العربية بين الشباب والخرّيجين جرّاء تضخّم القطاع العام

نخجل من أنفسنا في بلدان عربية لا تتمتّع بالخدمات وشروط الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة، وتشكو من عدم المساواة والعدالة الاجتماعية، ويشتد الفقر والعوز في عددٍ كبيرٍ منها، مثل تونس وفلسطين وليبيا وسوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر، وبمستوياتٍ مرتفعةٍ في بلدان مثل اليمن والسودان والصومال وموريتانيا وجيبوتي.

وتُمثّل البطالة مشكلةً حادّةً في معظم البلدان العربية بين الشباب والخرّيجين جرّاء تضخّم القطاع العام، وتراجع النشاط الاقتصادي بسبب الاضطرابات الٳقليمية والنزاعات المسلحة، والاحتلال الإسرائيلي العنصري الذي أدّى إلى كوارث إنسانيّةٍ في فلسطين. لذا فإنّ التحوّل نحو نماذج تنمية تستند إلى قطاعاتٍ إنتاجيةٍ مختلفةٍ تولّد فرصًا أكثر للعمل الكريم والمُجزي، ويتطلّب مستويات عربية عالية من التضامن والتشاركيّة، ومن تعليمٍ وبحثٍ وتدريبٍ وابتكارٍ ومدخلاتٍ تكنولوجيّة. فمن الأسهل أن تكون فقيرًا لا تعمل، من أن تكون فقيرًا وتعمل في انفصامٍ سافرٍ بصورةٍ متزايدةٍ بين النموّ وتحسين الرفاهيّة الاجتماعية.

الدول الغنيّة قررت اللجوء إلى القوة للهروب من أزماتها المالية

النظام المصرفي العالمي المالي ينهار أخلاقيًّا (تتجاوز ملكيّة أغنى 84 شخصًا النّاتج القومي الإجمالي على النطاق الدولي). وقد تكون الحرب التجارية، التي أطلقها دونالد ترامب مجرّد تمهيدٍ لفوضى أكبر من الكبت وفي شكلٍ جديدٍ من القومية المالية.

على الشعوب، لا الأنظمة، أن تعيدَ بناء معنى الدولة، وٳعادة نظر شاملة في السياسات الاجتماعية والاقتصادية المُتّبعة، وفي معنى الكرامة الإنسانيّة في المجتمعات المحليّة المهمّشة. وكما يبدو فإنّ الدول الغنيّة قررت اللجوء إلى القوة للهروب من أزماتها المالية ما ينذر بعودة العنف والأزمات والحروب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن