الأمر في أساسه يرتبط بقوة بالحراك الاجتماعي في مجتمعاتنا الطبيعية، بحسب ركائز الثقة والشرعية السياسية وصراعات المكونات المجتمعية المتعددة، والتي تتجاذبها المنطلقات الفكرية والدينية، والجذور العرقية، والانتماءات الطائفية، وغيرها؛ ما يحفز بدوره تمثلات الهوية على تمظهرها الإلكتروني في فضاء الإنترنت، ويعطي لوسائل التكنولوجيا الغربية تأثيرها الفاعل بواسطة القوى المسيطرة عليها، والتي تدخل في عمومها ضمن منظومة الإعلام وصناعة الرأي العام، وإدارة حركة الاتصال الدولية، وترشيد المؤسسات المجتمعية بأنواعها.
ومثلما أشرنا في أكثر من مناسبة سابقة، فإنّ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي عصب التشكلات المؤسساتية خاصة التي تؤدي وظائف التواصل والتفاعل وتبادل الأفكار والآراء، وتفرز علاقاتها الخاصة بها افتراضيًا-طبيعيًا. وفي هذا الخصوص، لا شك أنّ التواصل الاجتماعي الرقمي باتت تسيطر عليه شركات الإنتاج المعلوماتي وأجهزة الاتصالات الدولية، خاصة الشركات الكبرى المالكة والصانعة والمنتجة لعناصر وآليات القنوات التواصلية بمختلف أشكالها وألوانها؛ منصات، وتطبيقات، ومدونات، وبرامج متنوعة، وتراخيص، ومستندات، وإجراءات فنية وقانونية وأمنية، وأنظمة عتاد حاسوبية، وهاتفية، بإصداراتها المتعددة...
النِّسب العربية العالية في استخدام الإنترنت وشبكة الويب لها دورها الحاسم في الاستقطاب السياسي والفكر التعبوي
الحقيقة لم يعد في إمكان أية شركة دولية منتجة لمثل هذه التكنولوجيات ألا تستعمل نفوذها التقني والقانوني بالقدر الذي يضمن مصالحها ويحقق لها رغائبها المعلنة وغير المعلنة؛ وتأتي المسائل السياسية والأيديولوجية في مقدمة المصالح والمطلوبات المعنية في هذا الشأن.
لذلك، لا نستغرب حين نلاحظ أنّ كثيرًا من مظاهر التفاعل الإلكتروني على منصات التواصل الاجتماعي تتضمن التعليقات والآراء وردود الأفعال ذات الطابع السياسي أو الأيديولوجي، وأحيانًا النقاشات الحادة والتباين الكبير في وجهات النظر، والأخذ والرد دفاعًا عن المبادئ والمواقف والانتماءات السياسية والفكرية والدينية المختلفة. وبالأخص في عالمنا العربي المتعطش لهذا النوع من التعبير والتمثل والتواصل المرقمن...
إنّ القنوات التواصلية الاجتماعية بمختلف صورها ومحتواها ومزاياها الجاذبة، تعزز التوجهات السياسية والأيديولوجية بصورة أو بأخرى، ما يعني أنّ النِّسب العربية العالية في استخدام الإنترنت وشبكة الويب العنكبوتية حاليًا ومستقبلًا - كما ذكرنا آنفًا - لها دورها الحاسم في أنشطة الاستقطاب السياسي أو الفكر التعبوي المؤدلج، في مشهدية الحراك الكوكبي في مختلف الساحات الافتراضية...
هنا، يُطرح التساؤل حول مدى إمكانية الاستفادة عربيًا من هذا الحراك الرقمي الكبير؟ في ظروف التخلف ومكابداته المتعددة التي يعيشها العرب سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ومعاناة الإنسان العربي المتطلع إلى الحرية الفكرية، والموقف السياسي المتحرر من شروط الهيمنة والتبعية، والأدلجة، والتسيير السياسي القسري...
بحسب بعض الأبحاث الدولية، خاصة ما يراه عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز، فإنّ ثلثي الأشخاص في العالم لا يثقون في السياسيين والأحزاب السياسية والمؤسسات السياسية بمختلف أطيافها (كاستلز، 2023)... الأمر يرجع إلى أزمة جوهرية في عامل "الثقة"، الذي من شأنه المساهمة في زعزعة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، خصوصًا في مجتمعات لا توجد فيها تشريعات ومؤسسات حيّة تضمن الحريات السياسية بقوة، وتحمي الرأي الآخر والفكر المنفتح والمعتقد المغاير، مثلما الحال في الدول العربية.. ويمكن جدًا أن يوظف فيها عامل الثقة لأغراض توجيهية تخدم الأهداف الأجنبية بواسطة المؤثرات الرقمية الغربية، التي لها دورها الفاعل المتصاعد، والمؤثر بدرجة عالية سلبًا وإيجابًا، في حركة الواقع الاجتماعي العربي.
لقد رأينا منذ بداية العقد الماضي كيف كان دور وسائل التواصل الاجتماعي فيما عُرف حينها بثورات الربيع العربي التي اعتمدت كثيرًا على حرية التفاعل الرقمي، وسرعة التواصل الإلكتروني، وفعالية التنظيم والتنسيق...
لا مفر للعرب إلا أن يخوضوا المعركة بعلم وإصرار على تحقيق الانتصار التكنولوجي الذي لا سبيل غيره للنهوض
غير أنّ الأمر لم يكن ليأتي بنتائجه المتوقعة إن لم توجد دوافع اجتماعية سياسية مُلحّة في البلدان التي شهدت انفجار الثورات العربية الأخيرة، واستطاعت القوى الأجنبية وسياسات المصالح الدولية الغربية خاصة، أن تدفع بها إلى الأمام، وتسهّل لها عمليات التفاعل الإلكتروني بدرجة كبيرة، خلافًا لما يحدث اليوم من مظاهر عرقلة التفاعل العربي بشأن أحداث غزّة، ووحشية الكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة... فلقد تقلّص الدور "الإنساني" المزعوم للشركات الدولية التقنية عبر الإنترنت، على خلاف ما شهدناه في أحداث سنة 2011.
إنّ الحالة غيرها في 2023-2024، وربما ستكون الحالة غير هذه وتلك، في أحداث وتطورات تالية، بحسب المصالح والتوجهات السياسية لشركات الشبكات الإلكترونية العملاقة.
ما تقدّم، يعني بالضرورة أنّ الساحة الإلكترونية مفتوحة للأكثر تأثيرًا، ولا مفر للعرب إلا أن يخوضوا المعركة بعلم ومعرفة وإصرار على النجاح المشترك، وتحقيق الانتصار التكنولوجي الذي لا سبيل غيره للنهوض والترقي والازدهار، وبالأخص في ظل تنامي أعداد مستخدمي الإنترنت في الدول العربية، والذين يقتربون من نسبة 60% من إجمالي السكان العرب، كما أشرنا فيما سبق. الأمر رهين بمدى امتلاك التقنيات والمؤثرات التفاعلية الرقمية، إلى جانب تعزيز الفكر السياسي العربي الذي يخدم مصالح الأمّة حاضرًا ومستقبلًا.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")