ظلت أوروبا منذ بداية الأزمة السورية، الحلم الذي راود النازحين السوريين، باعتبارها أرض الأحلام، ومرتع الرفاهية، والعيش الرغيد، وبصرف النظر عن محطات النزوح واللجوء الأولى، التي شملت دول الطوق السوري، الأردن ولبنان والعراق وتركيا وقبرص، فان تداعيات الأزمة انسحبت على القارة العجوز، التي لم تدرك كيفية التعامل مع موجات النزوح، فعالجت الأزمة من الوجهة الأمنية بداية، ومن ثم الوجهة المالية، وبتعبير أدق، الاستثمار في أزمة النزوح بالمال، والمساعدات للدول التي تستضيف النازحين، لا سيما وأن جميع الدول المضيفة تغرق في أزمات، اقتصادية ومالية، لا حدود لها، حيث استغلت المساعدات المالية والاقتصادية لشراء الوقت، بصرف النظر عن حجمها، وقيمتها الفعليةن وإسهامها في حل المشاكل المتفاقمة في هذه الدول المضيفة.
فقد شكلت أزمة النزوح عبئاً كبيراً على اقتصادات هذه الدول التي تعاني بنى متدهورة أساساً، واختلفت مستويات التأثير السلبي من بلد لآخر، بحيث برز لبنان في طليعة الدول التي عانت آثاراً مدمرة، قياساً إلى العديد من المعايير الاقتصادية، والمالية، والاجتماعية. فبلغة الأرقام ليس ثمة رقم موحد للنازحين في لبنان، حيث تختلف الأعداد من مؤسسة إلى أخرى، والأنكى من ذلك، أن مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والمسؤول الرئيسي عن أوضاعهم، لا تصرّح عملياً بالأرقام الحقيقية للسوريين المسجلين لديها في لبنان، بل ثمة من يعتبر هذه المسألة متعمدة لإخفاء الأعداد الحقيقية، والفعلية، لأسباب عدة ومختلفة. فمفوضية اللاجئين تعتبر أن العدد لا يتجاوز المليونين، فيما الواقع أن العدد بات اليوم يتجاوز الأربعة ملايين، أي أن نسبة السوريين باتت تشكل ثلثي عدد سكان لبنان، وهو أمر خطر، ويعتبره الكثير من المتابعين، خطراً وجودياً على الكيان اللبناني، لا سيما وأن الهرم السكاني للنازحين السوريين بمعظمه من فئة الشباب، وهي أزمة أخرى لقدرة هذه الفئة تحديداً، على التأثير في كافة المجالات، بما فيها أيضاً طبيعة التكاثر، والعمل، والسكن.
ورغم ذلك، فالسلوك السياسي الأوروبي يتعاطى مع الأزمة بمسارات تفاقم الأزمة، وتزيد من تداعياتها على لبنان، وحتى على دول أخرى، كقبرص مثلاً، وفي هذا الإطار، زار الرئيس القبرصي لبنان مرتين خلال أسبوعين، في الأولى أسس لمسار لبناني قبرصي وبرعاية أوروبية، فيما الزيارة الثانية بدت كأنها إطاراً تنفيذياً للمسار الأول، حيث اصطحب في زيارته رئيسة المفوضية الأوروبية، حيث طرح آلية تنفيذية لمعالجة الأزمة، وهي تقديم هِبة مالية أوروبية تقدر بمليار يورو لمدة اربع سنوات 2024 – 2027، وهي في الواقع، كما أجمع عليها معظم اللبنانيين، رشوة لإبقاء النازحين في لبنان بدل العمل على إعادتهم إلى سوريا، لا سيما وأن ثمة مناطق واسعة في سوريا فيها جميع مظاهر الاستقرار التي تتيح العيش فيها، للفئتين السوريتين، المعارضة والموالية للنظام.
إن التدقيق في هذا المشروع، يثبت بشكل واضح تعثر المشروع الأوروبي بما لا يناسب لبنان، لا من قريب، ولا من بعيد، بل يسهم في إغراقه بمزيد من الأزمات، وحتى في تداعيات تؤثر في طبيعة الكيان وزواله، إذا ما استمرت المعالجات بهذه الطريقة، فمثلاً قُدم اقتراح خلال الزيارة الأخيرة، إضافة إلى هِبة المليار يورو، بإطلاق مشروع الهجرة الموسمية للبنانيين الراغبين في العمل في دول الاتحاد الأوروبي، وهو أمر إذا أطلق تنفيدياً سيؤدي إلى إخراج ما تبقى من الشباب اللبناني، وترك لبنان في ظل الظروف القاسية التي تحيط به، وبالتالي سيكون هذا المشروع بمثابة تهجير اللبنانيين، وإبقاء السوريين وتوطينهم في لبنان، عبر مشاريع الدمج الاجتماعي الذي يُعمل عليه بكثافة، واضحة منذ فترة.
إن جميع الظروف الذاتية اللبنانية، والموضوعية الدولية، ستسهم في المرحلة اللاحقة على المزيد من الانهيار اللبناني مؤسساتياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وترك المجال لمشاريع التوطين، وغيرها من المشاريع كالفدرلة مثلاً، التي ستنهي عملياً مظاهر ما تبقى من الدولة ومؤسساتها، عملياً وفعلياً.
وغريب المفارقات في المسار الأوروبي الحالي الموقفان الفرنسي والألماني، اللذان يعتبران في مقدمة المواجهة مع لبنان، حيث يظهر الموقف الفرنسي بعكس ما هو شائع من مناصرته ورعايته الدائمة للبنان إلى حد تسميتها (بالأم الحنون)، تظهر اليوم بمسارات الدعم التي تفضي إلى انحلال الكيان اللبناني ومؤسساته. فهل تعتبر المواقف الفرنسية الحالية تعبيراً عن نهج أوروبي متكامل في سياق التعاطي مع لبنان وأزمة النازحين واللاجئين التي باتت تفتك في مقومات وجوده؟
في الواقع، يواجه لبنان اليوم أسوأ الظروف، أعداد مهولة من النازحين، واللاجئين، والعمال، والمقيمين، من مختلف الجنسيات، بحيث باتت «الجالية» اللبنانية في لبنان تشكل أقلية اجتماعية واقتصادية هامشية، لا دور لها، في ظل طوفان سكاني يصعب العثور على اللبنانيين بين هذه التجمعات التي تكاثرت منذ عقود طويلة، وباتت تشكل اليوم كتلاً بشرية واجتماعية، لها آثارها السلبية التي لا تعد ولا تحصى، وسط غياب تام لمشاريع الحلول الفعلية، ومن بينها المسارات الأوروبية.
("الخليج") الإماراتية