جميع هذه الأسئلة واجبة ومشروعة، ولا بد من التفكير فيها ومناقشتها، من منطلق عربي بحت، لكن بدايةً، لا بد من المرور سريعًا على بعض الأمثلة الجديدة في فضاء الإنتاجات الفنية. إذ أثار مؤخرًا، فيلم وثائقي أنتجته "نتفليكس" يجسد شخصية الملكة المصرية التاريخية "كليوباترا"، غضبًا عارمًا في مصر، بسبب تصويرها كملكة أفريقية، الأمر الذي اعتبره مصريون كثر، عملًا يشكل تزويرًا للمعطيات التاريخية وتشويهًا للحقائق.
والأخطر من ذلك، اتهم البعض "نتفليكس" بأنها تريد، من خلال صناعة هذا الوثائقي، ترسيخ فكرة أنّ الحضارة المصرية القديمة، هي حضارة القارة السمراء، دعمًا لأفكار "الأفارقة الأميركيين" الّذين يتبنّون هذه النظرية، خصوصًا وأنّ شركة "نتفليكس" هي منصّة بثّ أميركية عبر الإنترنت. وهكذا، أعاد هذا الفيلم، تسليط الضوء على أفكار حركة "الأفروسنتريزم"، التي تعتبر أن جميع حضارات العالم كانت تضم ذوي البشرة السوداء قبل تشتّتهم. لتسارع وزارة الآثار المصرية، وتؤكد في بيان أنّ "الملكة كليوبترا كانت ذات بشرة فاتحة اللون وملامح هيلنستية (يونانية)".
جهات تملك المال والسلطة تعمل وفق أجندة ممنهجة لتغيير المعتقدات والمفاهيم لدى الجماهير المستهدفة
ولأجل تبيان حقيقة الأمور، لم يمضِ وقت طويل حتى أعلنت القناة الوثائقية عن العمل على إنتاج فيلم وثائقي آخر، صناعة مصرية، يطرح حكاية وشخصية الملكة نفسها، ويصحح المعلومات المغلوطة التي وردت في وثائقي "نتفليكس".
لكن، المسألة لا تقتصر على ما تضمّنه فيلم بعينه من مغالطات تاريخية، إذ لطالما أثارت إنتاجات فنية عدّة نقاشات واسعة حيال مصداقيتها والغاية منها، ما زاد الهواجس من سعي البعض إلى تشويه وتزييف حقائق مثبتة، بما يخدم مصالح جهات محدّدة تملك المال والسلطة، قادرة على صناعة أفلام وتعمل وفق أجندة ممنهجة ترمي إلى تغيير المعتقدات والمفاهيم لدى الجماهير المستهدفة.
وكانت أعمال فنية كثيرة تمّ عرضها على منصات العرض الإلكترونية مثل "نتفليكس" وغيرها من المنصات، قد تعرّضت للانتقاد على مرّ الأعوام الماضية، بسبب طرحها أفكارًا وأحداثًا مناقضة للواقع والحقيقة، منها ما هو عربي مثل "كليوباترا"، ومنها ما هو أجنبي أيضًا مثل "Cuties".
وكذلك فعل، المسلسل التلفزيوني "فوضى"، الّذي يحكي قصة وحدة إسرائيلية سرية، تُسمّى "مستعرفيم" أو (المستعربون)، تنفّذ قواتها مهمات خاصة في الأراضي الفلسطينية، ويُصوّر العمل الفلسطينيين على أنهم الطرف المجرم في الرواية، مقابل "تببيض" صورة الإسرائيليين بوصفهم إنسانيين حضاريين مسالمين يدافعون عن المدنيين ويعملون على إحلال الأمن والسلام. بالطبع هم يدركون أن روايتهم مختلقة، لكنّ منتجي العمل تقصّدوا من ورائها إظهار إسرائيل (الدولة المحتلة) بثوب الضحية لا الجلاد. فمثلًا، ظهرت شخصية "درون" الرئيسية في المسلسل بصفات إنسانية، تتمتع بالشهامة والأخلاق والمبادئ ليكون بذلك "البطل المنقذ"، أما الشخصيات الفلسطينية في المسلسل فقد تقصد العمل إظهارهم على أنهم إرهابيون مجرمون لا غاية لهم سوى قتل الأبرياء من النساء والأطفال.
هذه ليست سوى نماذج مصغّرة، عن واقع الأفلام والوثائقيات والمسلسلات التي تعرض عبر الإنترنت والتي عادة ما تثير إالكثير من الجدل حولها، وهنا ليست غايتنا الإضاءة على الصناعات الفنية نفسها، بقدر التفكير سوية والتساؤل: كيف تؤثر مثل هذه الأعمال، التي فيها معلومات مغلوطة، على قناعات الشباب ومفاهيمهم؟
صراع ثقافات أم أجندات سياسية؟
فهل يمكن تصنيف ذلك في خانة صراع الثقافات أم في خانة الأجندات السياسية؟ وما هي التبعات السلبية الناتجة عن هكذا أعمال على مفاهيم الأجيال العربية الناشئة؟خصوصًا وأن مثل هذه الوثائقيات يُعرض على منصّات يشاهدها ملايين الشبان في أي وقت وأي مكان. ومن ثمّ، من المهم جدًا التفكير جديًا في كيفية مواجهة العرب هكذا إنتاجات ذات محتوى موجّه، سواء كانت وثائقية أو سينمائية تحصينًا لتاريخهم وإرثهم الثقافي؟ والتساؤل حول حقيقة وجود ما يشبه "اللوبي السينمائي" على المستوى العالمي يقف وراء إنتاج أفلام ووثائقيات تستهدف بشكل ممنهج تشويه صورة عالمنا العربي أمام الرأي العام.
الجيل الجديد لم يعد يقرأ، وبات يكوّن ثقافته عبر منصّات "السوشيال ميديا"
بدايةً، أخطر ما في هذا الموضوع، أنّ مثل هذه الأعمال، تُبثّ عبر منصات إلكترونية بديلة عن الوسائل التقليدية التي اعتاد عليها الناس كالمسرح والسينما والتلفزيون، وأكثر من يتابعها اليوم هم من جيل الشباب. وبالتالي تترسخ هذه الصناعات في عقولهم، وتترك انطباعًا وأفكارًا مسقطة عليهم، فتؤثر كثيرًا في وعيهم ومواقفهم ومعتقداتهم، وكذلك في تأييد قضية ما، كأن يصور للبعض مثلًا، بأن المحتل والمجرم والمعتدي هو ضحية يجب أن تلقى تعاطفًا كونها تدافع عن نفسها في مواجهة الإرهابيين.
من ثمّ، توجد أسباب كثيرة، ساهمت في تأثير مثل هذه الأعمال على الشباب العربي، أهمها أنّ "الجيل الصغير في السن، لم يعد يقرأ، وبات يبني ويكوّن ثقافته عبر منصّات "السوشيال ميديا"، بما تحتويه من مغالطات وفبركات وتزييف" بحسب ما يراه مدير التصوير السينمائي المصري كمال عبد العزيز، معتبرًا في حديث مع "عروبة 22" أنّ هذا ما تسعى إليه القنوات الاجنبية التي تصرف أموالًا طائلة من أجل إرساء فكرة معينة وترسيخها أو إيصال رسالة ما، وتراهن بذلك على فئة الشباب، وهو أشبه بفصل أبناء هذا الجيل عن الأجيال الأخرى، وإعادة تشكيل وعيه وأفكاره ومعتقداته من جديد.
لذا يمكن القول، أنّ مثل هذا الأمر، يوضع في خانة "الحرب الفكرية" وصراع الثقافات حتمًا، فمعظم الصراعات التي نراها حولنا ونعيشها اليوم، هي بمثابة "صراع ثقافات" من نوع ما، بسبب إختلاف القيم والمعتقدات الثقافية العربية عن غيرها في دول العالم. إذ يتّفق جميع المفكرين، على أنّ الشكل الأبرز والأهم لغزو المجتمعات، في مواجهة الفكر والمعتقدات، هو "الغزو الثقافي"، حيث يدفع العدو الجزء من ثقافته إلى البلد الذي ينوي غزوه، لتحلّ معتقدات وثقافة جديدة محل الوطنية، وعادةً ما يستهدف العدو الجيل الجديد ويقوم بسلخه عن محيطه.
"أسلحة ثقافية"... تأثيراتها السلبية ليست ظرفية إنما تمتدّ لعقود مقبلة
وفي هذا السياق، تُعدّ الصناعات الفنية، من وثائقية وغيرها، "أسلحة ثقافيّة مموّلة، لا تحدث بأخطاء فردية، إنما مقصودة، والدليل على ذلك، تكرار الفكرة المغلوطة في محاولة لفرضها وترسيخها" وفق عبد العزيز، والأسوأ أنه "لا يمكن إجراء أيّ رقابة عليها، مثل الوسائل التقليدية، كما لا بد من تثقيف الأجيال الجديدة وتوجيهها من أجل إدراك الحقيقة وتمييزها عن المزيّف من المعلومات المعروضة عليهم والمتاحة لهم".
أما التأثيرات السلبية، فهي لا تُعدّ ولا تُحصى "والتبعات ستكون وخيمة" على حد قول عبد العزيز، إذ إن تأثيرات ما يحدث ليست ظرفية أو آنية، وإنما تمتدّ لعقود مقبلة... "فشبّان اليوم سيكونون في مراكز قيادية بعد عقدين أو ثلاثة، وفي حال كانوا ممن سيطرت مثل هذه المنصّات على عقولهم، ستكون الكارثة الكبرى، لأنهم تربّوا على أفكار غريبة عن مجتمعاتنا، وهم من خلال مواقعهم سيطبّعون مع كل ما هو شاذ بالنسبة لمفاهيمنا كعرب".
والأخطر، أنّ "جيل الشباب راهنًا يكاد يكون منفصلًا عن المؤثرين الذين يجسّدون قيم الهوية العربية وثقافتها، فكم من شاب عربي اليوم لا يعلم مثلًا عن زكي طُليمات وثروت عكاشة...؟".
وهنا لا بد من الإضاءة على المناهج التعليمية، التي أهملت تظهير حضارتنا العربية، وساهمت بشكل أو بآخر، في عدم تثقيف الشباب العربي حول هويته وتاريخه، مقابل تركيز المدارس الأجنبية الموجودة في الوطن العربي، كالفرنسية والإنكليزية والألمانية، على تدريس تاريخ بلدانها لأجيالنا الناشئة.
"لوبي" عالمي ينتج أفلامًا عادةً ما تكون موجهة ومرتبطة بأهداف إيديلوجية واجتماعية وسياسية
أما المواجهة لهكذا إنتاجات، فتكون من خلال إحداث بعض التغييرات. وهنا يعدّد عبد العزيز بعضها، وهي، أولًا، تكون بخلق منصات على مستوى شبيه بمنصّة "نتفليكس"، تقدّم إنتاجات ضخمة وهادفة تستقطب الشباب العربي، وثانيًا، بأرشفة تراثنا وهويتنا وتاريخنا العربي في كل بلد، أرشفة أكاديمية، سواء في الشعر أو الغناء أو المسرح والموسيقى والثقافة (..) على شتى أنواعها، لكي تشكّل مرجعًا حقيقيًا توثيقيًا للباحثين، وثالثًا، بمراجعة موضوع المناهج التعليمية في المدارس، بالتوازي مع تعيين تربويين وإداريين أكفاء في المدارس الحكومية.
ويتطرق عبد العزيز إلى "اللوبي" أو "السيستم" العالمي، ولو اختلفت التسمية، ليقول: "لا يمكن صرف أموال طائلة على إنتاج فيلم بعكس اتجاهات أصحاب رأس المال والمموّلين، والذي عادةً ما يكون موجهًا ومرتبطًا بأهداف إيديلوجية واجتماعية وسياسية محددة". ويختم محذرًا: "إذا لم يخطُ الوطن العربي، بكل إمكانياته، خطوات فعلية وجدّية في هذا الاتحاه، وتحديدًا من أجل مواجهة هكذا أجندات، فستكون الخطورة مضاعفة ليس فقط على الشباب العربي بل على الهوية العربية، إذ إنّ ما يحصل اليوم هو تشويه مبرمج لمفاهيم الأجيال الصاعدة والمقبلة، و"قنابل فكرية موقوتة" لعشرين سنة مقبلة، ستتسبّب بتدمير داخلي لمجتمعاتنا على مراحل... لنكون أمام مشهد يحاكي سرقة طفل من أبويه، لإعادة تشكيل مفاهيمه ومعتقداته على الصورة التي يريدها صنّاع هذه الإنتاجات".
(خاص "عروبة22" - إعداد حنان حمدان)