من البيّـن أنّ هنـاك نـزاعًا على فكـرة الحـقّ بيـن تـيّـارات الفـكـر والسّياسـة ومذاهبـهـما في العالـم وانقـسـامًا على معـنـاها وعلى مَـن تـنـطبـق عـليه. والحـقُّ أنّـه نـزاعٌ إيـديولوجـيّ في جملة ما يجـري النّـزاعُ عليه مـن مسائـلَ تـدخُـل في بـاب الهندسـة السّياسيّـة للمجتمعات وللعالم برمّـتـه. ويـزيـد هـذا النّـزاعَ فـرادةً أنّـه يـدور على قضـيّـةٍ هي مَـنَـاطُ المشـروعيّـة في نظـريّـة السّياسـة الحـديثـة: هي مسألة الحـقّ؛ وهي المسألـةُ التي لا سبيـل لمقالـةٍ من مقـالات السّـياسـة في المجتمع إلى ابـتـنـاء مكانها في الحقـل السّياسـيّ إلاّ بـإنـتـاج رؤيـةٍ إليها هي، في الوقـتِ عـيـنـه، السَّـمْـتُ الذي سـيَـسِـم المقـالة تلكَ ومَـن تـقـتـرن بـه مـن أهـلِ الرّأي والممـارسـة مـن مثـقّـفيـن وفاعلـيـن.
ما من مجتمع يمكنه أن يستغني عن المنظومة الشّاملة من الحقوق
يقـع لمـسألـة الحقـوق، هـنا، ما يـقـع لغـيرها من أمّـهات المسائـل - في الحيِّـزيْـن الوطـنيّ والقـوميّ - حين يجـري تسيـيـسُـها أو تجـنـيـدُها في مشـروعٍ سياسيّ؛ وحـيـن تُـقَـارَب مقـاربـةً إيـديولوجيّـة لا تكـون الغايـةُ منـها بنـاءَ فـهْــمٍ صحـيـحٍ وشامـل بمـقـدار مـا تكـون خـدمـةَ مصـلحـةٍ بـذاتـها، بقـطـع النّـظـر عـن طبيعة تـلك المصلـحـة حين لا تـكـون شاملـةً وعامّـة. نعـم، نحن لا نـنـفـي إمكـان وجـود أساسٍ فـكـريّ أو معـرفيّ لذلك الاخـتـلاف في النّـظر إلى الحقـوق: إلى معنـاهـا ومساحـاتـها ومَـن يسـتـحقُّـها... إلخ؛ لأنّ الخطـابـات المتـنازِعـة على معنـى الحقـوق هي، في مُـهـودهـا، من منابـتَ فـكـريّـةٍ متـبايـنـة، وتـمتـح من ينـابـيـعَ ومناهـلَ مختـلفـة. مع ذلك، مَـن يسـعُـه أن يتـجـاهـل حـقيـقـة التّـداخُـل والتّـخـلُّـل بين الفـكـريِّ (المعـرفيّ) والإيـديـولوجـيِّ في كـلّ خطـاب؟ وعنـدي أنّ كـلّ هـذه الخطـابـات المخـتـلفـة في مشاربـها الفـكـريّـة هي، في الوقـت عـيـنـه، تمـثيـلٌ لقـوًى عـدّة في المجـتـمع و، بالتّـالي، تعـبيـرٌ عن تـنـازُعٍ - صـامـتٍ أو نـاطـق - بين مصـالـحـها الاجتـمـاعـيّـة التي مـن أحشـائـها يَـخْـرُج، حُـكْـمًا، الإيـديـولـوجـيُّ في خطـابـها بمـا هـو الشّـكـلُ القَـوْلـيُّ المطابِـق لـكـلّ مصـلحـة.
مـن حيث المبـدأ، كـلّ حـقٍّ من الحـقـوق الأربعـة، التي تـتـنـاولها الخطـابـات تلك بالـدّفـاع والتّـنـظـير، مشـروعٌ مشـروعيّـةً لا غـبـار عليها وتحـقيـقُـه - بـوصـفـه مطـلبًا - أمـرٌ لا غُـنْـيَـةَ عنـه مـن أجـل أن تـستـقيـم بـه أحـوال الأفـراد والمجتمعات والـدّول منـظـورًا إليـها - أي الأحـوال - مـن زاويـة نظـريّـة السّيـاسـة الحديـثـة. للـفـرد، بحسبـانـه مـواطـنًا في دولـةٍ وإنسـانًا في الوجـود، حـقـوقٌ لم يخطـئ الفـكـرُ اللّيـبـراليّ في التّـشـديـد عليها. وللطّـبـقـة/الطّـبقـات حقـوق اجتماعـيّـة أصـاب الفـكـرُ الاشـتـراكـيّ في المناضَـلـة عنـها. وللشّـعـب حقـوقٌ في أن يكـون سـيّـدًا على نـفـسه كمـا لم تَـفْـتَـإِ الإيـديـولوجيـا الوطـنـيّـة تقـول وتـكـرِّر. ثـمّ للأمّـة حـقوق في أن تكـون مـوحَّـدة ذاتَ سيادة مثـلـما ظـلّـتِ الإيـديـولوجيـا القـوميّـة تـدافـع عـن ذلك. نحـن، إذن، أمـام أربعـة أنـواع من الحقـوق لأربـعة كـيانـات اجتماعـيّـة متـدرِّجـة من أصـغـر وحـدة اجـتـماعيّـة (الفـرد) إلى أكـبـر وحـدة (الأمّـة). وهي هي الحقـوق التي تَكُـون بها الحـريّـاتُ والمساواةُ في الحقوق والعدالة والاستـقـلال والوحـدة والسّـيادة؛ وما من مجتمعٍ يـمـكـنـه أن يسـتـغـني عـن هذه المنظـومـة الشّاملـة من الحقـوق.
ما المشـكلـة، إذن، ما دامـت مشـروعيّـةُ كـلٍّ منـها مـتـأكِّـدة لا اشـتـباه فيها؟
المشكلة في الميل إلى التّفكير بعقلٍ يُقايِض حقًّا بحقّ أو يُساوِم على حقٍّ بحقّ
المشـكلـةُ في الأخـذ بها متـفـرّقــةً وبنـاءِ إيـديـولوجيـا سيـاسيّـة على كـلّ واحدة منها كما هي الحـال اليـوم (!) بـدلًا من الأخـذ بها مجـتـمعـةً: على الأقـلّ في المشـروع الفكـريّ. المشـكلـةُ، بعبارة أخـرى، في الميـل إلى التّـفـكيـر فيـها بعـقـلٍ يُـقايِـض حـقًّا بحـقّ، أو يُـسـاوِم على حـقٍّ بحـقّ، فيـما هـي جمـيعُـها حـقـوقٌ غيـرُ قابـلـةٍ للمساومـة عليها والمُـعاوَضـة، ومن ذا الذي يَـسَـعُـه الادّعـاء بأنّ مجـتـمـعًا مّـا يمـكـن أن يسـتـغـنـي عـن حـقٍّ مـن هـذه الحقـوق الأربـعـة مـن غيـر أن يكـون في حالـةٍ من النّـقـص والاحتـيـاج... والتّـأخُّـر؟ لا منـدوحـة، إذن، عـن نظـرةٍ مـنـظـوميّـة إلى هـذه الحقـوق جميـعـها بوصـفـها متـرابـطـة.
(خاص "عروبة 22")