أما اليوم، في ما يبدو من قرائن الأحوال (كما يقول مناطقة الإسلام) فقد غدا الأمر مخالفًا لذلك، إذ إنّ الارتباط الذي كاد يكون عليًا (بكسر اللام وتشديده) لم يعد على ما كان عليه قبل سنوات قلية فحسب. لستُ أجد حجة أقوى ولا أكثر دلالةً وتأييدًا من ردود الفعل الصادرة عن الشارع في دول الغرب (الأوروبي والأمريكي على السواء) انفعالًا بما استطاع "طوفان الأقصى" أن يُحدثه من حركية في الوعي الثقافي العام. ليس ما نشاهد ونسمع سوى ترجيع لصدى الخلل ولاضطراب في أمر "اليقين" الدي اطمأن إليه الماسكون الفعليون بالآليات التي تعمل بها العولمة فتتحكم في خيرات وفي نفوس البشر في العالم.
لا أملكُ أن أتحدّث عن العولمة من حيث هي "نسق جديد من العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمعلوماتية" لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسان، كما يقول ذلك مفكّرنا الفلسطيني حليم بركات. ولكنني أجدني أجنح إلى التفكير في الخلل الدي نجده يمس صفة اليقين، في معنى الاطمئنان التام الى أنّ أمر المستقبل متضمّن في الحاضر وأنّ معرفة ما سيقع لا تندرج في باب الأكيد والقطعي بل أنها ترقى إلى مرتبة اليقيني والمطلق وأنّ السيطرة على الإنسان، في معنى تقدير مستقبله والتحكّم فيه، قد غدت قدرًا مقدّرًا لا سبيل للانفكاك منه. من ذا الذي كان يملك الجرأة على امتلاك اليقين في معرفة ما سيحدث في العالم كلّه غداة انحسار وباء "كوفيد 19"؟ واليوم تحملنا علامات شتى على طرح السؤال نفسه بالنسبة إلى الاطمئنان التام (=اليقين) إلى صورة مستقبل العالم بعد "7 أكتوبر" وتداعياته على "الماسكين بأعنة الأمور في العالم المعولم". ردود الفعل، من قبل الشارع وأهل الفكر الحر في العالم، تأتي برهانًا ساطعًا على قوة الارتباط بين "العولمة"، من جانب وبين "اليقين"، من جانب آخر.
استطاعت "القوة الناعمة" أن تصبح أكثر الأسلحة نجاعة في متناول العولمة
تستمد العولمة قوّتها من عاملين اثنين ومن التضافر بين عمليهما. الأول منهما هو القدرة على "تأكيد مقولات السوق الحرة (...) وانتقال السلع دون ضوابط (...) ونشر قيم الاستهلاك وتنشيط الخوصصة وإزالة القوانين والعوائق التي تحد من فتح السواق الداخلية" - كما يوضح ذلك حليم بركات. وفي جملة واحدة: ترسيخ أُسُس الهيمنة الإمبريالية. وثاني العاملين هو السلطان العظيم والمتنامي الذي يكمن في الثورة الرقمية مند العقدين المنصرمين خاصة والذي قضت أسباب عديدة، متشابكة، أن يكون "أهل العولمة" المستفيد الأول والأشد خطورة من هذه الثورة.
لقد استطاعت "القوة الناعمة" (soft power) أن تصبح أكثر الأسلحة نجاعة في متناول العولمة مما يمكنها، ليس على الحفاظ على مكتسباتها الراهنة فحسب بل أن تغزو المستقبل فتحكم الطوق على التجارة وعلى النفوس، فيغدو المرء "إنسانًا عاريًا"، كما يقول مارك ديغان، أحد الروائيين والمفكّرين الفرنسيين المعاصرين المرموقين، إذ "اختفى المواطن كما اختفى التنافس السياسي وتعدد البرامج كي يعوض كل ذلك بآلية ضبط سياسي صارم تتحكّم في الرأي العام وتوجهه". لقد شلت إرادة الإنسان تمامًا، أو ذلك ما غدت العولمة تحسب أنه قد صار كذلك. شيء ما لم يكن في الحسبان، شيء بسيط وعجيب معًا هو أنّ "الإنسان" لا يندثر ولا يموت في عالم الهيمنة التامة والرقابة المطلقة. يظل شيء ما قابلًا للفعل. يظل شيء ما ممكنًا، مما لا يمكن توقعه فهو "غير قابل للتفكير فيه" - كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
لا أحد يملك اليوم أن يتمثّل ملامح إنسان "اليوم الموالي" لطوفان الأقصى
هل كان من "المفكّر فيه" أن يتوقع المرء أنّ الحناجر سترتفع بالصراخ، في جوف هارفارد رمز القوة الناعمة العليا والصانع الأول لـ"الماسكين بالأعنة"، احتجاجًا على إبادة البشر في غزّة وفي رفح؟ وهل كان من الأمر "القابل للتفكير فيه" أن تمتلئ الشوارع في عواصم ومدن الغرب الكبرى بالإدانة والرفض لمقولة إسرائيل جزء من الغرب وصورة للديمقراطية الوحيدة الممكنة في الشرق الأوسط، فلها أن تفعل بالإبادة والتشريد وقتل الهوية ما شاء لها الهوى؟.
لا أحد، فيما نحسب، يملك اليوم أن يتمثّل ملامح إنسان "اليوم الموالي" لطوفان الأقصى مثلما أنه لم يكن في مقدور عاقل أن يتمثّل صورة العالم والإنسان بعد جائحة كورونا. لعل اليقين الممكن هو أنّ ذلك الإنسان سيكون مخالفًا - مغايرًا للصورة التي ترتسم لليقين في وعي أصحاب العقد والحل في نسق العولمة.
(خاص "عروبة 22")