تقدير موقف

الدولة المارقة

كدأب الولايات المتحدة ودبلوماسييها في استخدام اللغة المرواغة، لأغراض سياسية ودعائية صرف مثل استخدام تعبير "الخط الأحمر" الذي يرى الرئيس بايدن أنّ إسرائيل لم تتجاوزه بعد، رغم آلاف الضحايا من النساء والأطفال، كان مصطلح "الدولة المارقة"، نموذجًا لتلك اللغة الديماجوجية البراقة.

الدولة المارقة

في عام 1957، وفي إطار إعلانه عن مشروعه لملء الفراغ الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط، مع تداعيات أزمة السويس، وفي مواجهة المشروع القومي لجمال عبد الناصر، وصف الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الاتحاد السوفياتي والصين بـ"الدولتين المارقتين"، ثم سرعان ما أضاف مجلس الشيوخ إلى القائمة، التي كانت يومها قصيرة وغير رسمية، كوبا وكوريا الشمالية.

ورغم أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية الشهيرة مادلين أولبرايت قررت عام 2000 التوقف عن استخدام المصطلح في التصنيف الأمريكي الرسمي للدول، إلا أنّ المصطلح الجذاب ظلّ يُستخدم إعلاميًا ودعائيًا على نطاق واسع. استخدمه رونالد ريجان 1985، وورد ذكره قبل عام واحد في "وثيقة الدفاع الاستراتيجي" التي اعتمدتها الخارجية الأمريكية أبريل/نيسان 2023. ولأنّ "الكلام ببلاش"، كما يقول المصريون، فقد كان أن فضّل جورج دبليو بوش، تمهيدًا لحربه "المقدّسة" استخدام تعبير "محور الشر"، وهو التعبير الذي تبناه جون بولتون، وكوندوليزا رايس، لينتقل بعد ذلك مع بعض التصرف إلى خطابات رئاسية "عربية".

الإسرائيليون لم يترددوا في قتل أول وسيط أممي للسلام عندما علموا أن خطته تتضمن أن تظل القدس عربية

بغض النظر عن محاولة أنتوني ليك؛ مستشار الأمن القومي السابق، التأصيل نظريًا لهذا المفهوم في مقالته الشهيرة في الـForeign affairs (مارس/آذار 1994)، لا يوجد لمصطلح "الدولة المارقة"؛ المصنوع في أمريكا تعريف رسمي محدد متفق عليه عالميًا في أي من المواثيق أو المعاهدات الدولية. ولكنه، بحكم المتواتر يشير في العموم إلى تلك الدولة التي ترفض الامتثال للقواعد والقوانين الدولية، أو تُشارك في أنشطة غير قانونية، أو تنتهك بشكل منهجي حقوق الإنسان.

والسؤال الذي على الأمريكيين، أصحاب المصطلح والذين أجهضوا للتو قرارًا أمميًا بوقف الحرب على المدنيين في غزّة، أن يسألوه لأنفسهم: ألا تنطبق هذه المعايير كلها حرفيًا على إسرائيل، التي ترفض الامتثال ليس فقط لقرار مجلس الأمن الأخير بإيقاف حربها على غزّة، بل وكل قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بدايةً من 242 الشهير والقاضي بانسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 1967، وليس نهايةً بالقرار 2728 الذي طالب بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان. ناهيك عن قرار التقسيم 181، الذي تنكر له الجميع، والقرار 194 الصادر عام 1947 القاضي بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم، والذي لم تكتفِ الدولة العبرية بإلقائه في سلة المهملات، بل تتآمر لإلغاء "الأونروا" ذاتها لتلغي معها نهائيًا قضية اللاجئين. فضلًا عن القرارين 2334  و271  الذين يقرران بلا لبس عدم شرعية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والمطالبة بإلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس.

ألا تنتهك إسرائيل بشكل منهجي ومن عشرات السنين - وليس بعد السابع من أكتوبر كما يدعي البعض - حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؟! من فضلكم راجعوا التقارير (الأممية)، وتقارير منظمة بتسيلم الإسرائيلية، وتذكروا قرار مجلس الأمن رقم 237 لسنة 1967 الذي يدعو إسرائيل إلى "احترام حقوق الإنسان" في المناطق التي تأثّرت بالنزاع المحتلة.

ألا تنتهك إسرائيل حقوق مواطنيها "العرب"؟.. أرجوكم راجعوا ما أبدعه الصهاينة من "تقنين"  للعنصرية في نصوص قانون يهودية الدولة الذي اعتمده الكنيست قبل ست سنوات؟

أليس لدينا تقرير من منظمة العفو "الدولية" يصم إسرائيل بـ"العنصرية".

ثم ألم ترتكب إسرائيل، طوال الأشهر الثمانية الماضية، وعلى الهواء مباشرةً كل الجرائم التي وصّفتها القوانين الدولية؟!

دعك من جرائم الحرب اليومية، والجرائم ضد الإنسانية، والاستهتار باتفاقات جنيف، وبقرارات محكمة العدل الدولية. ودعك من اتهام نتنياهو الهزلي للمحاكم الدولية بـ"معاداة السامية"، الجرائم الإسرائيلية، حتى بتعريف القانون الجنائي العام قديمة قدم الكيان ذاته، أو ربما الفكرة الصهيونية ذاتها. ولا يتردد الإسرائيليون أبدًا في ارتكابها، قتلًا أو ابتزازًا أو إرهابًا، أو ما إلى ذلك مما يجرّمه كل قانون عام، وليس فقط القانون الدولي.

هل تحتاج "الصحيفة الجنائية" لدولة ما لأكثر مما ارتكبته إسرائيل لكي تصبح الأجدر بلقب "الدولة المارقة" الأمريكي الصنع؟

وكل مطلع على تاريخ هذا الكيان يعرف أنّ ما كشفته الجارديان في تحقيقها المميّز عن ما فعلته الاستخبارات الاسرائيلية "الموساد" مع فاتو بنسودة المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولة ICC من ترغيب وترهيب وصل إلى حد التهديد بإيقاع الأذى بعائلتها لم يكن أبدًا جريمة إسرائيل "الجنائية" الأولى، فالإسرائيليون لم يترددوا ذات يوم في قتل الكونت برنادوت؛ أول وسيط أممي للسلام في 17 سبتمبر/أيلول 1948، عندما علموا أنّ خطته للسلام في حينه تتضمن أن تبقى القدس عربية، وأن يعود اللاجئون إلى ديارهم. كما لم يترددوا قبل ذلك في قتل اللورد موين؛ الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط عام 1944، أو بعد ذلك في التدبير لتفجير مصالح أمريكية وبريطانية في مصر 1954 فيما عُرف بعملية سوزانا.

هل تحتاج "الصحيفة الجنائية" لدولة ما لأكثر من هذا لكي تصبح الأجدر بلقب "الدولة المارقة"؛ الأمريكي الصنع؟.. ربما تكمن الإجابة واضحة وقاطعة في صورة المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة يمزق "ميثاقها".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن