تكمن خصوصية الأساطير السياسية العربية المعاصرة في أنّها كانت في بدايتها حقائق تاريخية ثابتة لا تقبل التشكيك والطعن بحكم أنّها كانت شاهدًا على تضحيات شعوب المنطقة والتحامها بنخبتها خلال معارك التحرير الوطني. لكنّها تحوّلت بفعل اختللات العقل السياسي العربي وأعطابه إلى إيديولوجيا تبريرية للسائد أوّلا، ثمّ استقرّ أمرها إلى أن أضحت "أصنامًا ذهنية" متكلّسة ثانيًا. ويمكن الإشارة - على سبيل الذكر - إلى ثلاث أساطير شاهدة على ذلك ممثّلة في "الاستقلال السياسي"، ثم في الديمقراطية، فالهالة التي ترافق نجاح بعض الأفراد العرب المهاجرين المتميّزين دوليًا في مجالات علمية دقيقة.
توجّهت الدوائر الرسمية إلى عدّ الاستقلال "ماركة مسجّلة" باسمها فلا يستفيد منه إلاّ من يواليها وترضى عنه
وبقدر ما كان نجاح الشعوب العربية في الحصول على استقلالها السياسي بعد معارك تحرير وطني دامية مؤشّرًا على قوّة الإرادة العربية الإسلامية على التحرّر من السطوة الاستعمارية، فإنّ ذلك الاستقلال تحوّل إلى شكل من أشكال الأسطورة. إذ احتكرت تأويله وتصريفه جهات محدّدة ضمن منطق "الزعيم الأوحد" الذي لا يشقّ له غبار. بينما كان من الممكن أن تقود نخب الحركة الوطنية دولة الاستقلال الفتيّة نحو آفاق أرحب لا سيما في مجال التداول السلمي على السلطة أسوة بتجارب بعض الدول الأخرى سواء بالغرب أو حتّى بالعالم الثالث.
شكّل هذا المعطى منعطفًا حاسمًا في طبيعة المسارات التي انتهجتها دولة الاستقلال في مستوى نوعية البناء المؤسّساتي والإيديولوجيا المستخدمة. فبدل أن تتركّز جهود النخب الحاكمة حول معارك تكريس التعدّدية والديمقراطية وبناء التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية في مناخ من الشفافية والنزاهة، توجّهت عناية الدوائر الرسمية إلى عدّ الاستقلال "ماركة مسجّلة" باسمها فلا يستفيد منه إلاّ من يواليها وترضى عنه. وهو ما غذّى ثقافة الإقصاء على أساس مدى الولاء. فتكلّست الثقافة السياسية من جديد بعد تطوّر نسبي خلال الحقبة الاستعمارية.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ هذا المحدّد السوسيوثقافي شكّل عنصرًا مهيمنًا موجّهًا لجميع النخب التي برزت منذ عهد الاستقلال منتصف خمسينيات القرن العشرين وإلى اليوم، فإنّ الغرابة تزول من تعثر تجارب الانتقال الديمقراطي بعديد الدول العربية بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. إذ تحوّلت الديمقراطية إلى أسطورة حيّة لا سبيل إلى إدراك كنهها أو تحقيقها إلّا في ظلّ طقوس لا تحدّدها مراكز صنع القرار الدولي فقط، وإنّما كذلك من ورثوا ثقافة "الولاء" و"الطاعة" للزعيم الأوحد.
لم يأخذ العالم العربي من الديمقراطية إلّا الوسائل التي تمكّنه من إطالة مدّة الاستئثار بالسلطة وغنائمها
وهو ما يفسّر أنّ جلّ الأحزاب العربية على اختلاف مرجعياتها السياسية والإيديولوجية تشترك جميعها في وجود شكل من أشكال السلطة الأبوية. إذ من النادر جدًا وجود حزب سياسي عربي يتداول على رئاسته قادة من أعضائه المنخرطين وفق انتخابات دورية منتظمة. ولا يرجع هذا الأمر إلى تحجّر العقل السياسي العربي فقط، وإنّما كذلك إلى تشوّهه بشكل رهيب. ففي ملاحقته للحداثة السياسية ومقتضيات اللعبة الديمقراطية لم يأخذ منها إلّا طقوسها الشكلية والوسائل التي تمكّنه من إطالة مدّة الاستئثار بالسلطة وغنائمها سواء أكانت سلطة مادية أم سلطة رمزية. فمسخت الديمقراطية بكيفية أفرغتها من عمقها الاجتماعي والإنساني.
لقد أفضى ترويج الأساطير السياسية الجديدة إلى انعكاسات سلبية سواء على مستوى تراجع دور النخب الفكرية والنظر إليها كأنّها جزء من الماضي السحيق الذي يستحسن تزيين المتاحف به، مقابل تعاظم سلطة "التكنوقراط" الذين لا يحفلون إلّا بتنفيذ المقرّرات والأوامر الواردة عليهم. ولعلّ ذلك التراجع يفسّر هزالة الجدل والنقاش بالفضاء العمومي. وفي ضوء كلّ ذلك لا يمكن انتظار بروز مجتمع مدني فاعل يقوم بأدواره في النقد والتصحيح وإعادة البناء. ذلك أنّ الدوران في حلقة مفرغة من علامات البنى الأسطورية الثابتة.
(خاص "عروبة 22")