لم تلتزم إسرائيل كالعادة بأي من نصائحه، إما لأنها تعلم أنها "من وراء القلب"، أو أنه لن ينفذ ما يهدد به إن لم تستجب لنصائحه، أو لأنه بافتراض صدقه فإنّ أنصارها في الساحة الأمريكية سوف يدافعون عنها، ويعيدون بايدن إلى رشده.
ومع أنه قد انتظر حتى يطمئن إلى قتل عشرات الألوف من الفلسطينيين حتى يتفوه بتهديداته الرقيقة، فإنّ حشر إسرائيل لمعظم سكان غزّة في رفح، وتهديدها باقتحامها بريًا للقضاء على ما تدعي أنه ٤ كتائب متبقية لـ"حماس" فيها، فيما تشتعل غزّة كلّها بالمقاومة في المناطق التي ادعت إسرائيل أنها طهرتها منها، وتصاعد الضغوط الداخلية في الساحة الأمريكية، قد دفعه إلى البحث عن خديعة جديدة يغلّف بها سياسته تجاه ما يجري في غزّة، فانتهى إلى فكرة الاعتراض على العملية البرية الإسرائيلية في رفح ما لم تتقدّم إسرائيل بخطة لإجلاء المدنيين منها، وظلّ بعض الوقت يؤكد هو ووزير خارجيته أنّ إسرائيل لم تتقدّم بعد بهذه الخطة، فيما هي تمارس هوايتها في قتل الفلسطينيين جوًا، وكأنّ القتل بالطيران مستثنى من اعتراضه.
تزايدت الضغوط على بايدن داخليًا قبل الانتخابات الرئاسية ولذلك كان لا بد من الادعاء بأنّ ثمة تغييرًا في السياسة
فلما بدأت إسرائيل العملية البرية، لم يعلّق إلا بالقول بأنه سوف يعاقب إسرائيل إن هي تجاوزت "الخطوط الحمراء"، مع تأكيده بأنها لم تتجاوزها بعد، وعندما وقعت المجازر الأخيرة في مخيمات رفح اكتفى البيت الأبيض بالتعليق بأنّ صور ما جرى مروّعة، لكن التأكيد استمر على أن هذه المجازر لم تتجاوز بعد خطوط بايدن الحمراء التي أصبح واضحًا أنها بلغة القرآن الكريم {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا}.
تفسير سراب بايدن أو خطوطه الحمراء بالغ الوضوح والدلالة، فالإدارة الأمريكية تنطلق دائمًا من موقف الانحياز المطلق لإسرائيل، لكن الجرائم التي ارتكبت في غزّة فاقت كل الحدود، وتجاوزت ردود فعلها في دوائر الرأي العام الغربي ما هو مألوف من انحياز لإسرائيل، وامتد ذلك إلى الساحة الأمريكية ذاتها، سواء من قِبَل الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، أو اليهود غير الصهاينة أو الأمريكيين الأفارقة أو السكان الأصليين، وأخيرًا شباب الجامعات الذين أحدثوا نقلة نوعية في توجهات الرأي الأمريكي.
وإزاء هذه التحولات، تزايدت الضغوط على بايدن داخليًا في وقت بالغ الحساسية قبل الانتخابات الرئاسية، ولذلك كان لا بد من الادعاء بأنّ ثمة تغييرًا في السياسة، وذلك ببعض المواقف اللفظية كإعلان رفض التهجير القسري لأهل غزة، وتبني "حل الدولتين"، ونصائح القتل الرحيم لإسرائيل، ثم اشتراط إجلاء المدنيين قبل الاقتحام البري لرفح، وأخيرًا التهديد بحرمان إسرائيل من بعض الذخائر إن تجاوزت الخطوط الحمراء لبايدن.
غير أنّ كل ما سبق كان لمجرد اتقاء الضغوط تفاديًا لانعكاساتها السلبية على وضعه في سباق انتخابات الرئاسة، بدليل مرات استخدام "الڤيتو" الأربع ضد أي مشروع قرار بوقف إطلاق النار، أو بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وسيل الأسلحة والذخائر الهائل لإسرائيل الذي لولاه لما استطاعت الاستمرار في الحرب، والكم الهائل من المساعدات الاقتصادية، والتصدي لمؤسسات العدالة الدولية كمحكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية بالتشويه والتهديد لمجرد أنها جرؤت على النظر في دعاوى مناهضة لإسرائيل.
أيّ تحوّل حقيقي في السياسة الأميركية لن يحدث إلا باستمرار صمود المقاومة الفلسطينية
ويزيد من رسوخ هذه السياسة المراوغة لبايدن أنّ أنصار إسرائيل، ليس فقط من الحزب الجمهوري، وإنما كذلك من داخل الحزب الديمقراطي، يقفون بالمرصاد لأي خطوة يُشْتَم منها انتقاد السياسة الإسرائيلية، ذلك لأنّ وجود دوائر تقدّمية داخله وبالذات في أوساط الشباب، لا يعني أنه يضم فقط قطاعات متعاطفة مع الفلسطينيين وحقوقهم، وإنما توجد إلى جانب هؤلاء جماعات بالغة التشدد في تأييدها لإسرائيل بادر بعضها بالاعتراض على تهديد بايدن بحجب ذخائر بعينها عنها، وكذلك بالهجوم على الجنائية الدولية بعد أن جرؤ مدّعيها العام على أن يطلب من دائرتها التمهيدية إصدار أوامر باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه، مع أنّ المدعي ساوى بين الجاني والضحية، وفعل الأمر نفسه مع ثلاثة من قادة "حماس".
والخلاصة أنه يجب أن يكون واضحًا أنّ كل ما يُسَمَّى تغييرًا في السياسة الأمريكية إنما هو من قبيل التكتيك غير المفيد لنا، وأنّ أيّ تحوّل حقيقي في هذه السياسة لن يحدث إلا باستمرار صمود المقاومة الفلسطينية وتداعياته على الداخل الإسرائيلي ومواقف الرأي العام العالمي عامة والأمريكي خاصة، وانعكاس هذه التداعيات على القرارات الأمريكية والإسرائيلية.
(خاص "عروبة 22")