قضايا العرب

العرب في الغرب: فصامية "الهنا وهناك"

باريس - مزن مرشد

المشاركة

يرفضون الآخر، يشيطنون المختلف، يحاربون لمنع الزواج المختلط، ويرفضون الزواج من مطلّقة، أو ذات مهنة لا يحبذونها، أو لها ماضٍ بحسب تفكيرهم... يغيّرون مساكنهم إذا جاورهم من هو على غير دينهم أو حزبهم أو قوميتهم، لكن، كل هذه الفيتوهات تنتهي حالما تطأ أقدامهم بلاد الاغتراب.

العرب في الغرب: فصامية

هنا يلتزمون بحسن الجوار متجاهلين اختلاف هذا الجار، يتزوجون من امرأة مهما كان ماضيها بكل رضى ومحبة وتباه أحياناً، يتقبّلون أعداءهم، لتظهر على السطح ازدواجية صعبة الفهم، تخصّ سلوك الفرد ذاته فيكون مسالمًا متسامحًا هنا، وتجرّه الحميّة هناك.

لا ننكر أنّ الأكثرية تتغيّر نحو الأفضل، فقدرة التأقلم هي الغريزة التي سمحت للإنسان بالبقاء، أما قبول الآخر والتسامح فهو موضوع يستحق النقاش، إذ يرتبط بالعديد من العوامل الاجتماعية والثقافية والدينية. فقضية قبول الآخر حسّاسة ومعقدة، وهنا تنّوه الدكتورة بعلم النفس خولة حديد والباحثة في الدراسات النفسية والاجتماع إلى ارتباط هذه الازدواجية بالانتماء والهوية وتأثير الهجرة على الأفراد بما تحمله من تغييرات تطرأ على حياتهم، ففي بلادنا يستقوي الفرد بجماعته، فلا قوانين تحميه أو تساوي بينه وبين الآخرين، فتكون جماعته هي الملاذ وهي الأمان، فالإنسان يستمدّ الكثير من قيمته من خلال ارتباطه بالجماعة التي ينتمي إليها. ولكن في المجتمعات الغربية عمومًا، يتمّ التركيز على الفردانية، في ظل وجود قوانين وسلطة قوية تحميها وتطبقها، ولا يحتاج الإنسان للجماعة ليحصل على الأمن والحماية والرعاية، أو القيمة الاجتماعية، أما في مجتمعاتنا، فما زالت الجماعة بعاداتها وتقاليدها وأعرافها هي التي تشكّل كينونة الفرد وطريقة تفكيره.

نعيش الفصام بين الفكر والعادة، بين الحق والعرف، بين المساواة و سلطة القوة

وهنا يتداخل رأيها مع رأي التشكيلي العالمي السويدي السوري محمد سيدا الذي يعتقد بأنّ العادات والتقاليد هي التي ترسم ملامح شخصيتنا الأولى فنحن نريد الحرية لابنة الجيران، وزميلتنا في الجامعة، لكننا نرفضها لأخواتنا، فتربيتنا كانت أحادية الإتجاه، أفكار دينية وأيديولوجية منغلقة كوّنتنا ولم تزل، فلو دخلنا بتفاصيل بيئتنا الأولى سنضيع فيها بكمية العنصرية التي كوّنتنا باسم "الأمة المختارة، الشعب المختار، امتلاك "مفاتيح" الحقيقة المطلقة..الخ"، إذًا الأشخاص هم أنفسهم هنا وهناك مع فارق بسيط وهو القانون العلماني الموجود في الغرب، الليبرالية الغربية والنظم الديمقراطية التي تجعلهم "مسالمين" وليس قبولهم بالآخر. ويختم ليقول: "نحن نعيش الفصام بين الفكر والعادة، بين الحق والعرف، بين المساواة و سلطة القوة".

ميكانيك التحوّل

هنا راودني سؤال مهم من وجهة نظري وهو: ما الذي يجعل الأفراد يتغيّرون بين بيئة وأخرى؟ ليجيبني الدكتور خلدون النبواني، الحاصل على دكتوراة بالفلسفة الأوروبية المعاصرة وأستاذ السوربون، بأنّ ردات الفعل واستجابات الناس ليست واحدة، فالاستجابات لا تكون دائمًا ميكانيكية، بمعنى آخر هناك أشخاص يزدادون تعصبًا لأفكارهم أو ديانتهم وهذه الفئة ليست كثيرة في الواقع وتحتاج لدراسات نفسية معمقة، فالغالبية يتغيّرون، والتغيّر هنا دليل على أنّ الناس يتفاعلون بما يسمح به الأفق المتاح، في مجتمع جديد يفرض عليهم شيئًا من التعامل مع قوانينه، وبالتالي يجدون أنفسهم أقرب للحرية عمومًا في أوروبا وأكثر إنسانية وفقا للقوانين، وبالتالي هم يستجيبون للإطار العام، ولكن يظلّ هناك ظاهرة الفصام بين ما يعيشه في واقعه الجديد، ويتقبّله، وبين ما يرفضه وما يريده لوطنه هناك.

الانتماءات الأصلية للمهاجرين تلعب دورًا مهمًا في حياتهم وسكنهم وأعمالهم 

فالفصام عند مختلف الفئات بين أشخاص لديهم شهادات عالية، يدرِسون في الجامعات، ويعيشون هنا منذ ثلاثين عامًا لكنهم يريدون لبلدانهم أن تظلّ على ما هي عليه، فيؤيدون الدكتاتوريات هناك ويدعمون الديمقراطية هنا، يساندون الدولة البوليسية هناك، ويطالبون بالمزيد من الحريات هنا، هؤلاء يحتاجون إلى دراسة نفسية وهم ظاهرة قليلة أظنّ قياسًا بمن يتغيّر نحو الأفضل، وهنا يتجلى الخوف على الهوية فنجد مثل هذا الذي يتطرّف باتجاه التمسّك أكثر بمرجعيته الدينية أو الطائفية ويخشى عليها من الذوبان في المجتمع الجديد، وآخر يصبح ملكيًا أكثر من الملك فيكون أكثر تحررًا من الغرب، وكثر ممن يتوازنون ويتأقلمون بشكل جيّد وتتغيّر أفكارهم لتصبح أكثر منطقية ومواءمة لمنطق قبول الآخر.

وهنا أعود للدكتورة خولة حديد، التي تتوافق بالفكرة الأخيرة مع الدكتور النبواني، فتؤكد أننا ما زلنا نجد أنّ الانتماءات الأصلية للمهاجرين تلعب دورًا مهمًا في تشكيل حياتهم، وأماكن سكنهم، والأعمال التي يقومون بها، إذ نجد في أمريكا مثلًا أحياء كاملة يسكنها الصينيون، وأخرى المكسيكيون، وأخرى اليهود من طائفة معيّنة "الحرديم"، فبالرغم من كل القوانين والحريات المتاحة، الناس يرغبون بالانتماء والحفاظ على عناصر هوية معينة تربطهم ببلادهم الأصلية.

لا تغيير ولا قبول للأخر

تنتفي النظرة الوردية باعتقاد تغيير الأفراد وقبولهم للآخر، عند الأستاذ محمد عبد الله، المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة في واشنطن، إذ لا يتفق مطلقًا مع مقولة الاندماج وقبول الآخر، ويرى أنّ الإسلاميين مثلاً يرفضون دساتير الدول الغربية التي يعيشون فيها ويحملون جنسياتها، وإذا استطاعوا تغييرها بالقوة لن يترددوا. وفي مثال آخر يرى أنّ العرب الذين يعيشون في السويد يرفضون دور السوسيال لحماية الأطفال، وبالمقابل يأخذون منه المساعدات المالية.

في بعض الدول نلتمس رفض الاندماج إلى حد ما، متزامنًا مع عدم الاستقرار النفسي أو الانسجام مع المجتمعات الغربية، وهذا يدفع البعض للانعزال في هذه الدول، أو العيش ضمن كانتون محلية هي نسخة مصغرة عن بلده أو مدينته أو قريته.

الاستثناء الأهم في الكلام أعلاه هو الجيل الشاب، خاصة المنفصل عن عائلته كون لديه فرصة أكبر للاندماج بالمجتمعات المضيفة، أما من يعيش في كنف عائلة منغلقة فسيعاني بكل تأكيد من تقبّله للآخر، ومن ينتمي لعائلة مندمجة أكثر فالجيل الثاني سيكون أكثر تقبلًا للآخر وللمختلف. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن