وجهات نظر

المتغيّر الثقافي وتجارب الوحدة

 هل كل تجارب الوحدة السياسية والاقتصادية في العالم تتطلّب أساسًا ثقافيًا؟ الإجابة في الحقيقة لا، فهناك تجارب اتحاد اقتصادي أو تكتل سياسي لا تطلب أن تكون الدول الأعضاء فيه متجانسة ثقافيًا مثل تجربة التكتل الصاعد "البريكس" ( (BRICS، وهناك تجارب أخرى حضر فيها البُعد الثقافي مثل تجربة الاتحاد الأوروبي، وهناك العالم العربي الذي يمتلك تجانسًا ثقافيًا أكبر من نظيره الأوروبي، ومع ذلك لأسباب سياسية فشل في تحقيق أي صورة من صور الوحدة إلا صيغة مجلس التعاون الخليجي.

المتغيّر الثقافي وتجارب الوحدة

فيما يتعلق بتجربة البريكس (BRICS)، وبالإنجليزية هي اختصار يضم الحروف الأولى لأسماء 5 دول هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، فسنجد أن هذه الدول تختلف فيما بينها على المستوى الثقافي والحضاري، فلا يمكن مقارنة الثقافة الهندية بالبرازيلية أو الصينية بالروسية، وربما بسبب ذلك من غير المتوقع أن تتجاوز تجربتهم حدود النموذج "الابتدائي" في الوحدة الذي يشبه ما قدّمته أوروبا في بداية رحلتها نحو الوحدة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ولن تستطيع تجاوزه إلى وحدة كاملة حتى لو امتلكت واحدًا من أسرع معدلات النمو الاقتصادي في العالم، وأصبحت أحد أهم التكتلات الاقتصادية، وصارت محط اهتمام عديد من الدول الأخرى، التي ما فتئت ترغب في الانضمام إلى هذا التكتل ومنها دول عربية كبيرة.

أوروبا اتّحدت نتيجة امتلاكها مشروعًا اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا صنع وحدتها بالتدرّج والإنجاز

وهناك رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" (Asian) الذي يضمّ عشر دول آسيوية بينها مشتركات ثقافية حتى لو اختلفت في اللغة والخبرات السياسية، ولكن البُعد الثقافي كان عاملًا مساعدًا في بناء هذا التكتل، ولكنها وعلى خلاف تجربة الاتحاد الأوروبي لم تقل إنها صاحبة رسالة ثقافية وحضارية للعالم، إنما اكتفت بأن تؤسّس شراكات اقتصادية عابرة للقارات مع مجلس التعاون الخليجي ومع مجموعة دول أمريكا اللاتينية وغيرهما.

والحقيقة أنّ الجدل حول المتغيّر الثقافي كان حاضرًا بقوة في تجربة الاتحاد الأوروبي، فأوروبا لم تتّحد فقط بفعل الثقافة الأوروبية أو القيم الغربية، إنما اتحدت نتيجة امتلاكها مشروعًا اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا صنع وحدتها عبر رحلة طويلة اتّسمت بالتدرّج والإنجاز الذي ينتقل من مرحلة إلى أخرى، وأنّ مسارها نحو الوحدة أكد على أنه لم ينظر إلى قضية الهوية الثقافية باعتبارها واقعًا ساكنًا لا يتغيّر ولا يتأثّر بالظروف الاجتماعية والسياسية، حتى لو اعتبر كثير من الباحثين أنّ للهوية الثقافية والتاريخية جوهرًا أصيلًا، إلا أنه يرتدي ثيابًا مختلفة تكسو هذا "الأصل" وتختلف تبعًا للسياقات التي تعيش فيها.

أما في الحضارة العربية فيمكن القول أيضًا إنّ هناك جوهرًا أصيلًا يتمثّل في قيم ومبادئ ولغة وثقافة لا يصنع في حد ذاته وحدة، فلا بدّ من أنّ "يُكسى" بمشروع سياسي واقتصادي وثقافي معاصر يصنع هذه الوحدة، وهذا ما جرى في أوروبا فقد كان هناك قيم الحداثة والتنوير التي جاءت على أنقاض قيم العصور الوسطى ولكنها عرفت مسارات مختلفة أفرزت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وبريطانيا الديمقراطية المحافظة، وفرنسا الديمقراطية الثورية، حتى استقرّت دولها على صنع هوية معاصرة جديدة تقوم على التعاون المشترك والاعتماد المتبادل والوحدة الاقتصادية والعملة الواحدة ورفع الحواجز على تنقّل البشر والسلع.

فيقينًا هناك فرق بين ما نسميه بـ"الهويات التاريخية" من قيم ثقافية ودينية ومجتمعية "كامنة" وبين "الهويات المعاصرة" المرتبطة بالرسالة السياسية التي تبثّها النظم والنخب داخل المجتمع، والتي من الوارد أن تتغيّر حسب السياق السياسي، وهذا ما جعل أوروبا تعمل على مشروع إعادة الدمج والتأهيل في التعامل مع دول أوروبية غرّدت خارج منظومة أغلب الدول الأوروبية لفترة من الزمن، فبدأت بإعادة تأهيل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وعملت على "تصنيع" منظومة قيم جديدة تحلّ مكان النازية ونجحت في ذلك، كما فعلت دول الاتحاد الأوروبي الشيء نفسه مع بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية حيث أعادت تأهيل منظومة قيمها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية حتى تستطيع أن تنضمّ إلى الاتحاد، وهنا سنجد أنها بنت مشروع الوحدة مع هذه البلدان على قيم غربية وثقافة أوروبية كامنة سهّلت -ولم تضمن- نجاح انضمامها للاتحاد الأوروبي.

لقصور الأدوات السياسية وغياب الديمقراطية أُهدرت فرص الاستفادة من المشترك الثقافي والحضاري العربي

ولذا علينا ألا نندهش أنّ بلدًا مثل الصين التي حملت منظومة قيم ثقافية وحضارية مختلفة عن بلدان أوروبا الشرقية مرّت عليها التحولات التي شهدتها هذه البلدان في تسعينيات القرن الماضي وكأنها لم تكن، لأنّ تجربتها صنعتها الخبرة الثقافية والسياسية الصينية منذ ثورتها في 1949 ووصول الحزب الشيوعي إلى السلطة، في حين أنّ وصول الشيوعيين إلى حكم بلدان أوروبا الشرقية تمّ بشكل مصنع عقب الحرب العالمية الثانية، وبدا كأنه عكس الوضع الطبيعي والقيم الثقافية السائدة في هذه البلدان، فكان وصولها للحكم مفروضًا بقوة خارجية وخروجها منها تمّ أيضًا بدور كبير للخارج ثم عادت في تسعينيات القرن الماضي إلى وضعها الطبيعي.

لا يجب النظر إلى قضية الهوية الثقافية باعتبارها إرثًا ساكنًا لا يتغيّر كما فعل المستشرقون لعقود طويلة والذين وصفهم إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق بـ"شرقنة الشرق"، ولا يجب التعامل مع المتغيّر الثقافي والحضاري "الأصيل" باعتباره مجالًا لتنميط المجتمعات واعتباره هو المجال الرئيسي للحكم عليها، في حين أنّ الصحيح أنّ هذه المنظومة الثقافية التاريخية أقرب للمادة الخام القابلة لإعادة التشكيل وفق السياقات السياسية والاجتماعية التي تتفاعل معها.

بالطبع؛ المتغيّر الثقافي المتعلق بمنظومة القيم التاريخية والحضارية والرؤية للذات والآخر، بجانب اللغة، كلها جوانب حاضرة بقوة في العالم العربي أكثر من أي تكتل أو قطب دولي آخر، ولكن لقصور الأدوات السياسية وغياب الديمقراطية أهدرت فرص الاستفادة من المشترك الثقافي والحضاري على عكس تجارب أخرى لم تمتلك هذا الرصيد الثقافي المشترك نفسه ومع ذلك صنعت تجارب وحدة مختلفة في الدرجة والرسالة والمضمون. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن