ينظر كثير من المراقبين، إلى مستوى المشاركة العربية في المنتدى، والتي تمثّلت في حضور أربعة من كبار القادة العرب، إلى جانب الأمين العام للجامعة العربية، وممثلين رفيعي المستوى من دول عربية أخرى، باعتبارها خطوة جادة على طريق بناء تكتل اقتصادي جديد، يتجاوز في مضمونه فكرة التكتلات الإقليمية الحالية، ويتسق إلى حد كبير مع النهج الصيني في التعامل مع العالم العربي، الذي يستند إلى التعاطي مع الدول العربية ككتلة موحّدة، على عكس الاستراتيجية الأمريكية التي تميل دائمًا إلى اللعب المنفرد مع كل دولة عربية على حدة.
تجلى هذا النهج بوضوح في مشاركة قادة عرب، باعتبارها خطوة على طريق الخروج عن قاعدة ظلت سائدة لعقود طويلة، تقوم على فكرة التكتلات القائمة على البُعد الجغرافي، والانفتاح على تكتلات أوسع تشمل باقي بلدان المنطقة العربية، تحتل فيها الأولويات التنموية والاقتصادية صدارة المشهد، عبر الاستفادة من المبادرة الصينية الطموحة "الحزام والطريق"، التي تستهدف زيادة الاستثمارات المتبادلة بين الدول الأعضاء في المبادرة.
ربما تبدو المشاركة الخليجية الفاعلة، في أعمال المنتدي الصيني العربي هي الأبرز، ما فسّره عدد من المراقبين بتغيير لافت في استراتيجيات العلاقات خلال الفترة المقبلة، فرغم أنّ دول الخليج لا تدخل ضمن المسارات الستة المقترحة لمبادرة "الحزام والطريق"، إلا أنها انخرطت على نحو فاعل في جلسات المنتدى على مدار السنوات الأخيرة، عبر أكثر من ثلاث قمم أكدت ما تملكه الدول العربية من قدرة، على تشكيل تحالفات خارج السياق التاريخي، والانفتاح على أية مبادرات تُعلي من شأن مصالح المنطقة، بعد عقود من الاعتماد المفرط على حليف استراتيجي واحد.
يبدو الحوار العربي الصيني، بحسب مصادر دبلوماسية عربية تحدثت لـ"عروبة 22" أقرب ما يكون إلى "ديالوج سياسي رفيع"، على متن خطة "مارشال جديدة"، أطلقتها الصين قبل سنوات، من أجل إعادة صياغة حالة الفوضى الاقتصادية والسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تسببت فيها السياسات الأمريكية، وهي خطة تقوم بالأساس على فكرة أنّ التنمية الاقتصادية هي المفتاح الوحيد لحل العديد من القضايا التي تعاني منها المنطقة، عبر طرح اقتصادي طموح، لا يجمع فحسب الدول العربية التي انضمت رسميًا إلى مبادرة "الحزام والطريق"، وإنما يشمل أيضًا دول الخليج الست، ويمتد إلى اليمن والعراق وربما تركيا، على نحو يعزز فرص التعاون عبر قاعدة "المنافع المتبادلة"، التي تقوم على تهيئة المنطقة للتطور الاقتصادي المطلوب.
لا يعكس الحضور العربي في منتدى بكين، تنامي مستوى الشراكة مع الصين في السنوات الأخيرة وحسب، بل قد يؤدي إلى تحوّل تدريجي في العلاقات الاستراتيجية العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي شرعت منذ سنوات في الانسحاب من رمال المنطقة المتحركة، والاستغناء عن النفط العربي، وهو ما فتح الباب واسعًا أمام المشروع الصيني، الذي نجح في غضون سنوات قليلة، في ضم أكثر من 17 دولة عربية، تقيم حاليًا علاقات شراكة استراتيجية شاملة مع الصين، التي يتجاوز حجم استثماراتها في تلك الدول، وعلى رأسها مصر، 250 مليار دولار، فيما يزيد حجم التبادل التجاري على 398 مليار دولار.
لكن هل يعني ذلك، أنّ العرب قد اتجهوا كليةً نحو الشرق، مدفوعين بالانسحاب الأمريكي من المنطقة.. وما هي مزايا التحوّل نحو المشروع الصيني؟
ربما لا يكون الأمر صحيحًا على إطلاقه، إذ يرتبط على نحو كبير، حسبما يرى الخبير في العلاقات الدولية والشؤون الأمريكية، الدكتور أحمد سيد أحمد، بسياسة الحياد الإيجابي في العلاقات الدولية، تلك التي ظلت، على مدار عقود، واحدة من أبرز محددات السياسة العربية.
ويقول أحمد لـ"عروبة 22" إنه رغم حالة الاستقطاب الشديد التي يعيشها العالم حاليًا، بين القوى الكبرى من أجل كسر الهيمنة الأمريكية، وبناء عالم متعدد الأقطاب، إلا أنّ بناء شراكة بين الدول العربية والصين، لا يمكن النظر إليها باعتبارها بديلًا عن الشراكة مع الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا، لكنها ربما تكون خطوة مهمة على طريق الانعتاق من هيمنة الشراكة مع المعسكر الغربي، عبر فلسفة تقوم على تنويع الشراكات من أجل خلق هامش للحركة، بهدف تعظيم المصالح العربية من المزايا النسبية التى يتمتع بها الاقتصاد الصيني.
تركّز بكين في استراتيجيتها المعلنة مع الشرق الاوسط، على الجوانب الاقتصادية والاستثمارية دائمًا، وتنأي بنفسها عن التدخل في الشأن السياسي أو حتى العلاقات البينية بين دول المنطقة، لكن ذلك لم يمنعها من إعلان موقف واضح ومحدد فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، على خلفية الحرب الدائرة في غزّة، وهو ما ظهر واضحًا في كلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال ختام أعمال منتدى بكين، عندما أعلن عن دعم بلاده لعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، وإقامة دولتها المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، بل ودعا إلى عقد مؤتمر سلام دولي فعّال من أجل حلّ الصراع، لأنه "لا ينبغي أن تستمر الحرب إلى ما لا نهاية".
تصريحات الرئيس الصيني لا تخلو من دلالات سياسية، تقول بوضوح إنّ المشروع الصيني فى المنطقة، لا يسعى إلى قطع الطريق فحسب على المشروع الأمريكي الأوروبي، الخاص بإنشاء ممر اقتصادي بديل يصل الهند بأوروبا مرورًا بدول الخليج وإسرائيل، وإنما يستهدف أيضًا قطع الطريق أمام غريمه الأمريكي لاستعادة نفوذه من جديد على أطلال منطقة، حوّلت سياساته فيها الكثير من بلدانها إلى ركام.
(خاص "عروبة 22")