دائمًا ما نلفى سياسات رعناء للدول الكبرى في اختراع الأزمات وإدارتها تبدو لنا بمظهر النقيض لسلوكات هذه الإدارات السياسية في مجتمعاتها. ذلك أنك مثلًا ترى الفرد الأميركي أو الأوروبي يتمتع بقوانين تحمي الحرية الفردية وترعى رفاهه الجسدي والروحي وتضمن له كل ما يلزم العيش الكريم، في المقابل ترى أنّ المسؤول عن إدارة هذه المجتمعات، هو نفسه يؤيد ضرب المدنيين بصواريخ وقنابل وغازات سامة ويمارس أبشع أنواع القتل والجريمة في المجتمعات الأخرى!
إنّ مناقشة هيمنة دولةٍ أو تحالفٍ دوليٍ بقيادة دولةٍ كبرى على العالم، ينبع من أزمة في الذهنية الاختزالية الغربية التي تسمي نفسها المجتمع الدولي، بخلفيةٍ مركزية لا ترى في الآخر ما يقتضي اشتراكَه في المجتمع الدولي. يتحدث ريجيس دوبريه عن "احتكار ما هو كوني" عند الغرب وعن "الأنانية المقدسة" في سلوكياته، فيقول: "وحده الغرب لديه مهارة تقديم مصالحه وتمثيلها بوصفها تعبِّرُ عن مصالح الإنسانية بأسرها... فلا يزعم الآسيويون ولا الأفارقة امتلاكهم مفتاح السعادة والمستقبل. وما عاد المسلمون، في أغلبيتهم العظمى، يحلمون بإعادة تشكيل بقية العالم على صورتهم" (ريجيس دوبريه ورينو جيرار، ماذا تبقّى من الغرب، ترجمة مراد دياني، المركز العربي للأبحاث، بيروت-الدوحة، 2023، ص 22-24).
الغرب يفهم الوجود الحر ضمن مفهوم "الكائِن المُستبيح" الذي لا يعترِفُ بحضور الآخر
إن ما يريد دوبريه قوله هو إنّ الغرب يتفاعل بذهنية أنثروبولوجية لا تزال تقيم الاعتبار الديني والأنثروبولوجي والعرقي والفئوي والإثني في النظر إلى باقي شعوب العالم. وهذا ما يعطِّلُ شعارات العيش المشترك التي قامت على أساسها المنظمات الدولية. فما معنى "العيش معًا" في ذهنية الغرب السياسية اليوم في التفاعل مع القضية الفلسطينية؟!، لماذا لم تعترف الدول الخمس الكبرى إلى الآن بفلسطين في "مجلس الأمن"؟ ثم، لماذا لا تأخذ الإدارة السياسية للغرب المواقف الناضجة بين الطلاب والمثقفين والفئات الشعبية التي تخرج يوميًّا بمظاهرات تؤيد العدالة في مسألة فلسطين؟ لماذا لا تكون السياسة امتدادًا لأفكار فلسفة الحق والعدالة والمساواة التي انشغل بها الذهن الغربي لتحسين ظروف انوجاده الحر الكريم؟.
بكل بساطة، إنّ الغرب يفهم الوجود الحر ضمن ما يمكن أن نسميه مفهوم "الكائِن المُستبيح" الذي لا يعرفُ الآخر، أي لا يقيم اعتبارًا للعيش المشترك وتقاسم الفكر والقوت والعمل، بل هو لا يعترِفُ بحضور الآخر. لذا نجِدُ في كثير من محاولات التقرُّبِ الغربي من ثقافات الآخر استعلاءً أنثروبولوجيًّا لا تبرره سوى النفسية المهيمنة التي تجد نفسَها نقطةَ ابتداءٍ سوداء للكون.
وما أعقدَ أن يستبيحَ الإنسانُ فكرَ أخيه الإنسان، بحيث لا يرى فيه إلا نقطةَ وصولٍ لفعل ابتداءٍ فريدٍ يمارسُه هو، هنا يصبح الاستهلاكُ عبوديَّةً محاذية لقيم العيش الكريم، كأنها غير قابلة للتجاوز، بسبب أن الحاجة إلى استهلاك مبتكرات الغرب، وبلغة الغرب العلمية والتقنية، باتت جزءًا من تكوين الإنسان المعاصر. فأنت لا يمكن أن تكونَ اليوم إنسانًا بلا تواصلية الإنترنت والهواتف والذكاء الاصطناعي، فهذه المنظومة لم تعد رفاهيَّةً في العيش، بل هي من ماهيات الحضور البشري الآني. لذا إن السيطرة على تكوين الكائن بعناصر من قُطْبٍ واحد، هو الغربُ، هو الذي يزيد في الأرباح، ويؤكد الهيمنة الحضارية المطلقة.
مشهدية الحرب والجثث والجرائم لن تكون مروعةً لقادة دول "المجتمع الدولي" طالما أنّ إمكان استمرار الربح ممكن
هذه الحضارة الربحية لا يعنيها تأييد الحق أو التنازل عنه، بل يعنيها مكتسبات الانخراط في ما يجري، لتحقيق أرباحٍ تؤكد الاستمرار في المستقبل. لذا لن تكون مشهدية الحرب والجثث والجرائم مروعةً للقادة السياسيين لدول "المجتمع الدولي"، طالما أنّ إمكان استمرار الربح ممكن رغم طول مدة الجريمة أو الشر المطلق.
إنه اختزال الآخر في هيئة مجالٍ عبوري فحسب، فمتى نعرِبُ المكان باقتدارٍ لنمنع عبوره المهين؟!.
(خاص "عروبة 22")