ثقافة

في الإقصاء الثقافي من الفضاء العمومي عربيًا

تحدّث الفيلسوف الألماني أكسيل هونث عمّا وصفه بالإقصاء الثقافي الذي يشكّل عائقًا حقيقيًا يحول دون تحقيق المواطنة الكاملة ودمقرطة الفضاء العمومي بما أنّ ذلك الإقصاء يتعمّد انتهاج "انتقائية موضوعية" موهومة في أسلوب تعامل وسائل الإعلام مع مختلف القضايا المطروحة والعناصر المحدّدة في النقاش والحوار.

في الإقصاء الثقافي من الفضاء العمومي عربيًا

لئن كان بعضهم يعتقد أنّ الإقصاء الثقافي بالعالم العربي يتعلّق غالبًا بوضعية الأقلّيات الثقافية والعرقية والإثنية والدينية، فإنّ ذلك الاعتقاد يبدو مضلّلًا إلى حدّ بعيد خاصّة إذا ما تمّ النظر في تاريخية تلك الأقلّيات ومقارنتها بوضعية عموم المجتمع العربي. إذ يمكن الإقرار بأنّ الإقصاء الثقافي علامة بارزة لا تقتصر على فئة اجتماعية دون أخرى ولا مجال محدّد بما أنّه مصدر انشغال وقلق جلّ الشرائح الاجتماعية التي وجدت وتجد نفسها على هامش الأحداث والتحوّلات، بل مقصية حتّى من إبداء وجهة نظرها في وسائل الإعلام والفضاءات الرسمية المموّلة من أموال دافعي الضرائب والمجموعة الوطنية.

الدول العربية تشترك في انتهاج الإقصاء الثقافي من الفضاء العمومي لكلّ ما قد يخالف سرديتها الرسمية

يكفي إلقاء نظرة على نوعية الفاعلين الاجتماعيين الذين يحتكرون مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية بالمنطقة العربية من خلال رصد ما تبثّه وسائل الإعلام الرسمية أو الخاصّة وإحصائها ودراستها لاستخلاص نتائج منها، أنّه لئن اختلفت الدول العربية في طبيعة نظمها السياسية وتوجّهاتها الايديولوجية، فإنّها تشترك في انتهاج الإقصاء الثقافي من الفضاء العمومي لكلّ ما قد يخالف سرديتها الرسمية، ولا يتبنّى خياراتها وتوجّهاتها السائدة في إطار سياسات قائمة على التحيّز والهيمنة الايديولوجية والثقافية التي تحرص على إظهار الانصهار ضمن النسق العولمي ولو على المستوى الشكلي الدعائي.

لعلّ ما يسترعي الانتباه أنّ ذلك الإقصاء لا يقتصر على المجالات الحساسة أو المصيرية مثل تشكيل الحكومة والتعليم والتنمية، وإنّما حتّى المجالات التي تبدو هامشية. فعلى سبيل الذكر عندما يتمّ تناول ملف العنف الذي تشهده مباريات كرة القدم، فإنّه غالبًا ما يقع استبعاد الباحثين والخبراء المختصّين في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما من الاختصاصات العلمية المساعدة على التعمّق في دراسة ظاهرة العنف والبحث عن حلول جذرية لها. ومقابل ذلك يتمّ حشد جحافل من اللاعبين القدامى والمدرّبين الذين لا تخفى انتماءاتهم الرياضية فيتحوّل النقاش إلى متاهات و"هستيريا جماعية" تفاقم شحن الأجواء بما يمسّ من العلاقات الإنسانية والسلم الاجتماعي. إذ يتمّ إحياء الولاءات الجهوية والعشائرية وتضخيم الهفوات الشخصية والزلات الفردية بطرق ممنهجة متشابهة في مختلف وسائل الإعلام المرئية والسمعية والإلكترونية.

لا ينفصل الإقصاء الثقافي عن بقية أشكال الإقصاء الأخرى مثل الإقصاء السياسي والأكاديمي والاقتصادي

لا يمكن في ضوء هذا المؤشّر الواضح الحديث عن صدفة أو مؤامرة، لا سيما أنّ انحراف القضايا والمفاهيم عن رهاناتها وأهدافها التي أعدّت لأجلها سمة ثابتة بالعالم العربي الإسلامي، تكشف بوضوح حالة التيه والعدمية التي تردّى فيها العقل السياسي العربي بصورة لا تعطي قيمة لعامل الزمن والفعل في التاريخ. وهو ما خلق حالة من الركود والجمود تجد فاعلين مؤثّرين يحرصون على استمراريتها وإدامتها وتأبيدها للحفاظ على التوازنات القائمة. ومن ثمة فإنّ الإقصاء الثقافي من النقاش العمومي لا يمكن فهمه إلاّ من زوايا متعدّدة مرتبطة بمفهومَي السياسة والسلطة بالواقع العربي المعاصر والراهن.

كما لا ينفصل الإقصاء الثقافي عن بقية أشكال الإقصاء الأخرى مثل الإقصاء السياسي والإقصاء الأكاديمي والإقصاء الاقتصادي. ذلك أنّه يُعدّ نواةً أو مركزًا تتعلّق به بقية أنواع الإقصاءات الأخرى. وهو في ارتباط جدلي وثيق بالوظائف التي تضطلع بها البنى العميقة المتحكّمة في الخطوط الكبرى لتوازنات الواقع بمختلف أبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية والحضارية. وغنّي عن البيان التذكير بجملة التقاطعات التي تصل البنى العميقة عربيًا بالمركزية الثقافية الغربية. فممّا لا شكّ فيه، يوجد شكل من أشكال تبادل المواقع والمنافع والأدوار منذ مرحلة الاستعمار المباشر وإلى مرحلة ما بعد الاستعمار والعولمة والرقمنة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن