الحقّ في المعرفة التاريخيّة يبدو غائبًا في ظلّ نموّ سرديات ذات بُعدٍ أسطوريّ تساعد على تشويه التاريخ لا حضوره الصحّي في الواقع العربي، ومن هنا أهمّية الحديث عن الوثائق الغائبة خلف أسوار المنع التي تُقيمها السلطات العربية محتكرةً هذه المادة الأساسية في أي محاولة لفهم تاريخنا العربي وإعادة اكتشافه.
الأنظمة السياسية العربية لم تصل بعد إلى مرحلة النّضج لفهم حقيقة أنّ المعرفة هي أهم سلاح
الشفافيّة في تداول الأرشيف أمام الباحثين والمهتمّين غائبة، وما يحضر هو الحجب الذي يُضَبِّبُ معرفتنا بتاريخ المجتمعات العربية، بل في الكثير من الأحيان يؤدّي حجب الأرشيف لسيادةٍ سرديةٍ غربيةٍ لدولٍ استعماريةٍ أو ذات مصلحة أو عدوّة، لأنها تفتح أرشيفها للباحثين من أجل ترويج سرديّتها لأحداثٍ تخصّ المجتمعات العربية في محطّاتٍ مفصلية.
تتنامى هذه السرديّة ويتمّ تكرارها في عديد الأبحاث فتحصل على ختم الرّواج، في ظلّ غياب السردية العربية التي تمّ حجبها بفعل الأنظمة السياسية، التي لم تصل بعد إلى مرحلة النّضج لفهم حقيقة أنّ المعرفة هي أهم سلاح يمكن به تحصين عقول الشعوب، وربطهم بدولهم ومحيطهم العربي، فالشفافيّة المعلوماتيّة ستسدّ الباب أمام أيّ سردية تشكّك وتتلاعب بالوقائع، اعتمادًا على الثقب الموجود في الذّاكرة العربية بتغييب الأرشيف.
مصر مثلًا التي تمتلك أكبر أرشيفٍ عربيّ، نجد حالة النشر الوثائقي فيها ضعيفة، على الرَّغم من ضخامة أرشيفها، إذ تمتلك أوراق البردي التي تغطّي فترةً طويلةً منذ بداية الحكم العربي وصولًا إلى القرن العاشر الميلادي تقريبًا، ثم لديها أوراق الجنيزة اليهودية التي تغطّي نحو أربعة قرون؛ خصوصًا في الفترة الفاطمية.
ثم نجد ثروةً من وثائق الأوقاف التي تغطّي النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الفترات الأيوبية والمملوكية والعثمانية، فضلًا عن وثائق الإدارة والحياة الاقتصادية والاجتماعية، وصولًا إلى ميلاد الأرشيف الحديث في عصر أسرة محمد علي (1805- 1953).
الكثير من تلك المادة الأرشيفية يتمّ نشره في مراكز بحثيةٍ غربيةٍ، بينما لا يكاد يُنشر في مصر نفسِها إلّا أقل القليل من هذه المادة التي يمكن أن تجعل فهمنا للمجتمع المصري أفضل للماضي والحاضر والمستقبل، هل يُعقل مثلًا أنّ أرشيف حروب مصر مع العدو الإسرائيلي لا يزال محجوبًا؟!.
مشروعٍ عربيّ لنشر الوثائق يعني أنّ السرديّة العربية ستتواجد على الساحة العالمية بدلًا من ترك تاريخنا ليكتبه العدو
على الرَّغم من ذلك، لدينا خطوات مُهمّة في الكشف عن الوثائق العربية شديدة الثّراء والتنوّع، فالدكتور جمال الدين الشيال نشر "مجموعة الوثائق الفاطمية"، كما نشر الدكتور محمد محمد أمين "فهرست وثائق القاهرة حتّى نهاية عصر سلاطين المماليك"، كذلك نشر أدولف غروهمان "أوراق البردي العربية في دار الكتب المصرية".
وفي بلاد الشام، نشر الدكتور أسد رستم "فهرس وثائق الشام في عهد محمد علي الكبير"، فضلًا عمّا نشره نجدة فتحي صفوة عن "الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية"، كذلك نشر الدكتور فاضل بيات مختاراتٍ وثائقيةً عن "الكويت في الوثائق العثمانية"، كما نشر أعمالًا وثائقيةً عدّة عن بلدان عربية.
هل هذا يكفي؟ الجهد المبذول مُقدّر ومحلّ احترام، لكنّه فردي قائم على مجهود باحثين يعملون بشكلٍ منفردٍ لخدمة الذّاكرة العربية، لكنّ مهمّة التعامل مع الأرشيف ووثائقه هي مسؤوليّة الدول والحكومات في المقام الأول، بسبب تشعّب الأرشيف وتنوّعه وكونه يضم ملايين الوثائق التي تغطّي تفاصيل تاريخ كلّ قُطر عربيّ، الأمر الذي يجعلنا نفكر في مشروعٍ عربيّ مشتركٍ لنشر هذه الوثائق بشكلٍ دوريّ وِفق خطةٍ واضحة المعالم.
الأهم أن تجعل الحكومات العربية مصلحة الشعوب فوق مصلحة الأنظمة
سيكون هذا المشروع نواةً أصليةً لحماية الذّاكرة العربية من ناحية، وتوفير مادةٍ ضخمةٍ للباحثين العرب للعمل بشكلٍ مشتركٍ وتركيبيّ في ما يخصّ الوثائق التي يمكن تبادلها من ناحيةٍ أخرى، ففي الأرشيف المصري وثائق تخصّ الجزائر والمغرب وبلاد الشّام مثلًا، ما يعني أن السرديّة العربية ستتواجد على الساحة العالمية، بدلًا من ترك تاريخنا ليكتبه العدو!.
الأمر المهمّ هنا أنّ التعامل مع الأرشيف العربي سيعلّمنا التصالح مع تاريخنا، لا أن نستخدم مادة الأرشيف الضخمة في إحياء عداءاتٍ لا يستفيد منها إلّا المُتربّص، فالتعامل مع الأرشيف العربي يجب أن يكون منطلقه الأساسي هو الفهم والبحث عن المشترك، وتعلّم كيفية التخلّص من الحزازات القديمة، وهذا لن يتحقّق إلا بالمُكاشفة والمُصارحة والشفافيّة، والأهم أن تجعل الحكومات العربية مصلحة الشعوب فوق مصلحة الأنظمة، هنا فقط سيلعب الأرشيف دوره في استخدام الماضي من أجل فهم الحاضر وصنع مستقبلٍ أفضل.
(خاص "عروبة 22")