الحوكمة والديموقراطية

إلى أيّ مدى يمكن تطبيق "الحُكم الرّشيد" في العالم العربي؟

أرجع الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى في حواره الأخير الهزّات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها المنطقة العربية منذ يناير/كانون الثاني 2011 إلى غياب الحُكم الرّشيد وافتقار الزعماء العرب إلى رؤيةٍ استشرافيةٍ واضحةٍ تنبّههم إلى جدّية مشروع الشرق الأوسط الجديد وخطورته.

إلى أيّ مدى يمكن تطبيق

يُثبت تطوّر تاريخ الأفكار في العالم العربي أنّ الدعوة إلى الحُكم الرّشيد متجذّرة في الخطاب الإصلاحي على الرَّغم من تبايُن المُصطلحات المستخدمة في ذكره. فقد بحث خير الدين التونسي عن "أقوَم المسالِك في معرفة أحوال الممالِك" من خلال نقده لظاهرة "الحُكم المطلق" ودعوته للحُكم المقيّد بالقانون والعدل، أو ما يُعرف بـ"المستبدّ المستنير". وهو الشيء نفسه تقريبًا عند الأفغاني وعبده والكواكبي.

كلفة الفساد في البلدان النامية تُقدّر بعشرة أضعاف جملة المساعدات التي تتلقّاها تلك الدول

ولئن كان معنى الحُكم الرّشيد أعمق ممّا ذُكر آنفًا، بحيث يتجاوز انتهاج الطرق الديموقراطية في اعتلاء سدّة الحكم وتسييره إلى ترسيخ قيم الحوْكمة والشفافيّة والمُساءلة ترسيخًا فعليًا عن طريق هياكل ومؤسّساتٍ حقيقيةٍ لا صورية، فإنّه ظلّ هاجسًا في تفكير أجيالٍ من المُصلحين والمُناضلين من دون أن يُكتب له التحقٌّق. ولعلّه من المفارقات البارزة في هذا الصدد أنّه بقدر ما فشل العالم العربي في صياغة نماذج للحُكم الرّشيد، فإنّ بعض الدول النامية التي انطلقت نهضتها بالتزامن مع النهضة العربية أو حتّى بعدها استطاعت تشكيل نماذجها الخاصّة في الحُكم الرشيد ولو في حدوده الدنيا مثل سنغافورة مع لي كوان يو، وناميبيا مع سام نوجوما وأوغندا.

إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ ضمان مشاركةٍ واسعةٍ في العملية السياسية، والفصل بين السلطات من مرتكزات الحُكم الرّشيد وكذلك ترشيد النّفقات وحُسْن التصرّف في الموارد والطاقات بحُكْم تغليب منطق الكفاءات على الولاءات، ونجاعة آليّات الحوْكمة ومراقبة الفساد، فإنّه من اليسير ملاحظة حاجة العالم العربي إلى الحُكم الرّشيد. وهي حاجةٌ أفصحت عنها مختلف التقارير الدولية. فقد جاء في تقرير المفوّضية السامية لحقوق الإنسان والحُكم الرّشيد أنّ كلفة الفساد في البلدان النامية تُقدّر بعشرة أضعاف جملة المساعدات الإنسانية والاجتماعية التي تتلقّاها تلك الدول.

الكتلة التاريخية قادرة على إحداث تغييرات جذرية لصالح مشروعٍ وطنيّ جامع يكون نواةً لمشروعٍ قوميّ شامل

بقدر ما تبدو الحاجة ضرورية إلى صياغة نموذج للحُكم الرّشيد في العالم العربي ولو بالتدرّج على طريقة لي كوان يو في سنغافورة، فإنّ تلك الحاجة تصطدم بعوائق متعدّدة نظريًا وعمليّا. فعلى الصعيد النّظري ما زال مستوى التنظير السياسي محتشمًا في ظلّ التحفّظات التي تسمّ علاقة النّخبة المثقّفة بصنّاع القرار السياسي والمجتمع. وهو ليس تحفّظا سطحيًا أو عرضيًا، وإنّما مرتبط بطبيعة الثقافة السياسية التي يعدّ نسق الأحكام السلطانية عنصرًا مُهيمنًا ومُوجّهًا لها. وهو ما جعل العقل السياسي العربي متوقّفًا في الرؤية نفسِها التي تسبّبت في حروب البسوس وداحس والغبراء والفتنة الكبرى.

أمّا على الصعيد العملي فقد تأخّر بروز الكتلة التاريخية القادرة على إحداث التغييرات الجذرية المطلوبة لصالح مشروعٍ وطنيّ جامعٍ يكون نواةً لمشروعٍ قوميّ شامل. وهذا التحوّل يستحيل حدوثه من دون التخلّص من عناصر الجذب والشدّ إلى الوراء، ومباشرة عملية تحديث سياسي عميقة المدى سواء على مستوى تغيير التصوّرات والمفاهيم الرثّة المرتبطة بها، ومن أخطرها مفهوم السلطة أو الحُكم، أو على صعيد نوعية السياسات المُعتمدة في تسيير الشأن العام التي لا بدّ أن يكون محرّكها الأساسي العدالة والإنصاف بدل الاستئثار والغنيمة والانتقام.

آن الأوان للخروج من أسوار دائرة الرعية إلى دائرة المُواطَنة الفعّالة التي لا تتهرّب من مواجهة واقعها وبناء مستقبلها

تظلّ يقظة الشعوب ووعيها بمسؤوليتها التاريخية عنصرًا مؤثّرًا في تحقيق الحُكم الرّشيد في العالم العربي. فكما استطاعت تلك الشعوب خوض غمار معارك التحرير الوطني بإمكانياتٍ محدودةٍ عدّةً وعتادًا، فإنّ معركة الخروج من مفاسد التخلّف إلى مصالح الترقّي ضرورة تاريخية. وقد آن الأوان للخروج من أسوار دائرة الرعية إلى دائرة المُواطَنة الفعّالة التي لا تتهرّب من مواجهة واقعها وبناء مستقبلها.

إذا كان من البديهي تعارض نموذج الحُكم الرّشيد في العالم العربي مع مصالح القوى الدولية وأطماعها في المنطقة العربية التي تعجّ بموارد طاقية ومنجمية هائلة، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يظلّ تعلّة لاستمرار أنماط من الحُكم القروسطي التي لطالما تذرّعت بشعارات الوحدة الوطنية أو القومية والمصلحة العليا في مواجهة المخاطِر الخارجية ولا سيما إسرائيل الدولة الوظيفيّة، إلاّ أنّه وبعد مضي سبعة عقود من تشكّل ذلك الكيان لم تُفْضِ السرديّة السياسية العربية الرّائجة إلّا إلى مزيد تمدّده وتوسّعه مقابل ترهّل مشروع الدولة العربية الحديثة وفشله.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن